عندما نقرر أن المنكر قد يجب عدم إنكاره إذا كان الإنكار سيؤدي إلى منكر أكبر؛ فنحن لم نلغ الحكم الشرعي بوجوب الإنكار، ولكننا طبقنا الحكم الشرعي المنطلق من القاعدة الشرعية: دفع أعظم المفسدتين بأخفهما، وكذلك عندما نقرر أن بعض أحكام الشرع يجب التدرج في تطبيقها؛ لكون التطبيق سيؤدي إلى مفاسد تفوق مفسدة تأجيل التطبيق، فنحن إنما أجلنا التطبيق لحين التمكن منه، وذلك الحين هو الذي لا يسبب فيه التطبيق مفسدةً أعظم من مفسدة التأجيل. وأهم مشكلات الذين يعارضون معارضة مطلقة فكرة جواز التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية أمران : الأول الغفلة عن الأصل الشرعي الذي ينبني عليه هذا التدرج، واعتقادهم أنه يعود فقط إلى الاستدلال بالفترة المكية من البعثة النبوية، وأنه بذلك يحتج بالمنسوخ ويدع الناسخ، ولا شك أن بعض دعاة التدرج يقعون في خطأ هذا الاستدلال، لكن خطأ هؤلاء لا يعم جميع القائلين بمشروعية التدرج في بعض الأحوال، كما أن خطأ من أخطأ لا يجيز لغيرهم خطأ الغفلة عن تجويز التدرج في تطبيق بعض الأحكام انطلاقا من قاعدة درء أعظم المفسدتين بأخفهما، كما أن استدلال من يستدل بالفترة المكية ليس دائمًا استدلالًا بالمنسوخ وتركًا للناسخ والمحكم، فقد يصح الاستدلال بالفترة المكية لبيان حاجة الناس في بعض الظروف والأحكام إلى التدرج في تقرير التشريعات، وأن الحكمة تقتضي ذلك، وأن ذلك ليس ذلًا وانهزامًا ولا رضا للدنية في الدين. الثاني أن الحاجة للتدرج في حكم من الأحكام أو بعض الأحكام يحتاج حاجة ماسة إلى معرفة تامة بالواقع؛ لأن هذه المعرفة هي وحدها التي ستمكننا من تقدير المفاسد المترتبة على ترك التدرج أو على التدرج والحاجة إليه، لمعرفة ما إذا كان التدرج واجبًا أو غير جائز، وكثير من منكري التدرج والمنازعين فيه من أبعد الناس عن معرفة الواقع، والذي تتشابك فيه العلاقات من شؤون اجتماعية واقتصادية وسياسية داخلية وخارجية. وما داموا يجهلون الواقع فكان ينبغي عليهم عدم الخوض في تقرير يستوجب العلم بالواقع. وهذا يبين الضرورة القصوى لمعرفة العالم الشرعي بالواقع؛ لأنَّ جزءًا من أحكامه لا يتم تصور مسائلها إلا بإدراك كامل للواقع محل الحكم. • عضو مجلس الشورى.