لماذا تبدو أمتنا العربية والإسلامية فيما بينها أقرب للاختلاف عن الاتفاق؟! ولماذا تبدو على هذا القدر من الفرقة داخل مجتمعاتها؟! فيما الإنسان من غير جلدتنا العربية والإسلامية أكثر إنصاتًا للآخر واحترامًا للرأي الآخر، ولو خالفه فيما يقول وفيما يعتقد، وعادة لا يتعصب ولا يضرب بيده على الطاولة ولا يستخدم يديه ولا حاجبيه، ولا يكشر عن أنيابه بالسباب والتهديد والوعيد، مثل المتحاورين في بعض فضائياتنا العربية، التي تشعل الفتن والانقسام، والضغائن بين أفراد وتيارات ومذاهب وطوائف ودول، وكلما حققت أعلى درجات الفتنة رأت في ذلك شهادة لنجاحها بامتياز.. ونفس الحال في منابر ثقافية وغيرها إذا جنحت أهدافها، وتبدو الفوضى والديماجوجية الغوغائية أفظع في الشبكة العنكبوتية، التي يطفح في كثير من مواقعها الجهل والعصبية، والحماقة والانتقام، والفضائح وكشف العورات وصناعتها، مع استثناء النماذج الناجحة في أي مكان وأي موقع يعرف أصحابه أدب الحوار، وقواعد الاختلاف وصواب القصد، والحذر من هوى الرأي. تعاليم ديننا الحنيف تحث على الكلمة الطيبة والمجادلة بالتي هي أحسن، كما يحث على قيم التعامل وفضائل الأخلاق من نبذ الغيبة والنميمة، والترغيب في الصبر واللين وحسن الظن، وكلنا نعرف ذلك كبارًا وصغارًا عاملين ودارسين، ومع ذلك لا نجد في الأمم وشعوب الدنيا أكثر منا خرقًا وإهدارًا لهذه القيم وميلًا للرأي الواحد، وكأن الأجيال ترضع هذا السلوك وتتغذى عليه. انظروا لإحصاءات الطلاق التي تحسب أعدادها بالدقيقة ومعظمها بسبب غياب الحوار الإيجابي الذي يذيب المشكلات وتسلط (الأنا).. وفي التعليم لم نستوعب بعد أهمية الحوار وفي الأغلب لا نمارسه، ولذلك يسير العلم في اتجاه واحد بحشو المعلومات، فتتجمد العقول ولا تبرز القدرات ولا تستقيم الشخصية والتفكير وتنتقل عدوى التسلط، وهل ننسى نماذج من المسؤولين الذين ينتشون بتسلطهم باعتباره أنه من يثيب ويعاقب ويمنح ويمنع، ولا أحد يهتم بهذا الجانب في تأهيل هؤلاء المسؤولين للوظائف القيادية. إذا انتقلنا للسياسة فهي الأصعب في واقعنا العربي، وتعكس كل ذلك في ظل غياب ثقافة الحوار، فالثورات التي أسقطت ديكتاتورية الحاكم، كشفت عن ديكتاتوريات شعبوية، وبعد أن توحدوا على شعار وهدف واحد انقسموا إلى مئة فصيل يتبادلون الاتهامات، وكلٌ يغني على ليلاه، والغريب أن الوطن الذي يتحدثون باسمه لا أحد يعمل من أجله، فيما الكثير من الفضائيات لن تجد أفضل من هذا الموسم الذي أصبحت طرفًا فيه وتغذيه. وللأسف هذا هو الواقع يا سادة يا كرام في عالمنا العربي.. واقع مزعج من غياب الحوار وشيوع الفوضى وتدهور الأمن. في المقابل نجد الإنسان في الدول المتحضرة لا يشغل نفسه بدين غيره، ولا بلون الآخر ولا مذهبه، إنما يؤدي عمله ويهتم بتخصصه في علمه ووظيفته ليطور نفسه وبلده، ويعيش حياته في حدوده باحترام الآخر، ولا يدمنون رذيلة الغيبة والنميمة، ولا حماقة العنف في الرأي والتعصب له، ولا التسلط في الأسرة، وينشئون الأجيال على الحوار والحق الشخصي واحترامه كثقافة حياة، حتى وإن كان فيهم استثناءات من متعصبين ومتطرفين. الحوار أيها السيدات والسادة مبدأ جميل بالاختلاف الهادف الذي يفيد ويصحح ويدرأ الشبهات ويزيل سوء الظن، ويجلب المودة ويحصن من الغلو، ويمنع التسلط وينير العقل ويضبط النفس ويحبب النفوس.. وفي الحوار ممارسة للصبر والحلم والتواضع. كما أن فن الاختلاف يعلم الإنصات واحترام الرأي الآخر، والرجوع عن الخطأ.. وفيه فرص الإبداع والوصول للحقيقة من أجل التطور شرط أن يكون للخلاف نهاية ولا يكون غاية. والقاعدة الذهبية في ذلك قول الحق تبارك وتعالى: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم). والتوجيه الإلهي للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك»، والقاعدة الذهبية للاختلاف من جوهر الدين الحنيف لخّصها الإمام الشافعي رحمه الله: «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب» ومثلها المقولة: «حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية غيرك». فأين نحن من قيم الحوار بدلا من تكريس الديكتاتور الكامن في الأنفس. سألت أحد الأصدقاء: متى تسود لدينا ثقافة الحوار؟ هز رأسه وقال: ما رأيك أنت؟ وأنا بدوري أحيل السؤال إليكم. [email protected]