يجدر بنا ونحن نعيش فرحة الاحتفال بيومنا الوطني هذه الأيام أن نعود بالذاكرة إلى عهد توحيد هذه البلاد المترامية الأطراف في عهد متقدم جداً يتجاوز قرناً من الزمان على يد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن رحمه الله. والنظرة إلى المرحلة التأسيسية في عهد الملك عبدالعزيز يجب أن تكون واقعية ولا بد من أن تراعى فيها الظروف والملابسات التاريخية والسياسية والجغرافية والمالية التي كانت سائدة في تلك الحقبة، وإذا ما روعيت هذه جميعاً تبدّى جلياً عظم ما تم من إنجازات في عهده يرحمه الله. فالكل يعلم محدودية الموارد المالية في بداية عهد عبدالعزيز حتى أنه قيل مراراً وتكراراً إنه تولّى حكم واحدة من أفقر الدول في المنطقة في ذلك العهد إذا ما قورنت بمصر أو دول الشام وسواها من الدول القريبة من المملكة ناهيكم عن المسؤوليات الجسام التي تكون على عاتق المؤسس لدولة ناشئة ترتبط بترسية دعائمها ووضع أنظمتها وقوانينها وتحديد الأطر العامة للتعامل مع أصدقائها وأعدائها في الداخل والخارج، ومع ذلك فقد نجح عبدالعزيز على كل الأصعدة فوحد بلاداً كان يسودها الذعر والخوف وينتشر فيها القتل والسلب والنهب حتى أن الحاج كان يودع أهله وداع من لا عودة له، لما كان يصيب الحجيج من تقتيل لسلب أموالهم، فما أن أمسك الملك عبدالعزيز بزمام الأمور حتى أمِنَ الحاج كما أمِنَ المواطن واتبع الملك عبدالعزيز في سبيل القضاء على ظاهرة القتل والسرقة شرع الله وحكمه فجزَّ رؤوس المجرمين في الساحات العامة وقطع أيدي السارقين على رؤوس الأشهاد وأباد عصابات الشر والفتنة عن بكرة أبيها، فتوقفت الجريمة وأمنت العباد والبلاد. وتلك مقدمة لا بد منها للحديث عن السر وراء هذا النجاح غير المسبوق الذي حققه قائد عربي ووحد بلاداً شاسعة، واكتسب احترام القاصي والداني من العرب والمسلمين وغير العرب والمسلمين قبل أن تظهر ثروة البترول بوقت طويل، وحين كانت المملكة من أفقر الدول كما أسلفنا. السر ولا شك هو تمسك هذا القائد منذ اللحظة الأولى التي حكم فيها هذه البلاد بشرع الله واتخاذه من كتاب الله وسنة رسوله دستوراً لها، فتحققت له العزة التي لم تتحقق لغيره، مصداقاً لما ورد عن السلف: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة بغيره، أذلنا الله). وعلى الرغم من أن توحيد المملكة تزامن مع الثورات العربية الكبرى على الأتراك والدولة العثمانية وحمل العرب وقتها ولأول مرة لواء القومية العربية، إلا أن عبدالعزيز حمل لواء الإسلام دون غيره، فقد كان الزعيم العربي الوحيد الذي يعلن أن جميع أحكام دولته منطبقة على كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه الصحابة والسلف الصالح، وكان دستور هذه البلاد منذ تأسيسها القرآن الكريم وكان الملك عبدالعزيز كلما سئل عن دستور بلاده يجيب، (دستورنا القرآن)، أما التعريف بالدولة وشكلها وترتيباتها الإدارية وما إلى ذلك فأول نظام وضع لها كانت مادته من إملاء الملك عبدالعزيز بمكة المكرمة في 16 صفر 1345ه 27 أغسطس 1926م. ونشر في الجريدة الرسمية تحت عنوان: (التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية) قبل توحيد بقية أجزاء المملكة وتسميتها بالمملكة العربية السعودية بنحو ستة أعوام ومن أهم التعليمات: - الدولة دولة ملكية شورية إسلامية مستقلة في داخليتها وخارجيتها. - جميع أحكام المملكة تكون منطبقة على كتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه الصحابة والسلف الصالح. وهذا التمسك بدستور الإسلام الخالد، هيأ للمملكة استقراراً وثباتاً في أحكامها لم يتأت لأي دولة أخرى في العالم، فشرع الله غير قابل للتغيير، وصالح لكل زمان ومكان، أما الأنظمة الوضعية فتتغير وتتبدل بسرعة لارتباطها بظروف معينة ومكان معين وزمن معين، لذلك رأينا تقلب دساتير كل البلاد من حولنا خلال عقود قليلة بين الرأسمالية والشيوعية وسواها، وبقيت المملكة متمسكة بدستورها الإسلامي على مدى قرن كامل وستبقى متمسكة به إلى يوم الدين، وقبل أسابيع قليلة سمعنا وقرأنا تصريحاً مهماً لصاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية بأن المملكة دولة إسلامية سنية سلفية. وهو عين ما جاء في التعليمات الأساسية للمملكة قبل نحو خمسة وثمانين عاماً، وقبل أن تستقل معظم الدول العربية. ومما جاء في وصية الملك عبدالعزيز لمن يلي الملك من بعده: (العزم على أن تكون حياتك وأن يكون ديدنك إعلاء كلمة التوحيد ونصر دين الله). وقد وردت هذه الوصية في برقية بعث بها الملك عبدالعزيز إلى ولي عهده في 18/1/1352ه وقد عمل بها كل أبناء الملك عبدالعزيز الذين جاؤوا من بعده. لا شك في أن للمملكة ثقلاً اقتصادياً هائلاً ووزناً سياسياً عظيماً، ولكن مصدر عزتها ولا شك هو تمسكها بهذا الدين، لأن دولاً أخرى قد تفوقها اقتصادياً، لم تتحقق لها هذه العزة والكرامة. وهو ما يؤكد ما ورد عن السلف مجددا: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله).