من الخطأ أن ننظر بشكلٍ سريعٍ ومُجتزأ إلى شعار الحماية الدولية الذي رفعه ثوار سورية عنوانًا للجمعة الماضية. فالأمر يتطلب وضع ذلك الشعار في إطار أكبر، ومحاولة فهمه من خلال عناصر الصورة الشاملة داخل هذا الإطار. أول تلك العناصر وأكثرها أهميةً يتمثل في استحضار السبب الذي حدا بالثوار للوصول إلى ذلك القرار. فلأول مرةٍ في تاريخ سورية يرفع أهلها مثل هذا الشعار؛ ليكون قبل كل شيء علامة خزيٍ وعار على نظامٍ كان يُفترض أن تكون حمايتهُم وظيفته الأساسية. لكنه بدلاً من ذلك أعلن الحرب عليهم، ويمارس تجاههم ممارسات وحشية من القتل، والاعتقال، والتعذيب، والإهانة، والحصار، والمطاردة، والتشريد لم يمارسها نظامٌ بحقّ مواطنيه في التاريخ المعاصر بهذه الدرجة. خاصةً إذا تذكّرنا أن كل ما يفعله هؤلاء المواطنون هو الخروج بسلميةٍ للتظاهر والمطالبة بحقوقهم المشروعة. كيف يمكن لنظامٍ سياسيٍ في الدنيا أن يُبقي ذرةً من الاحترام لنفسه، وهو يرى أفعاله تدفع الناس للخروج بلافتات تُطالب الأجنبي بأن يحميهُ منه، ومن بطشه وإرهابه؟ أي نوعٍ من التفكير السياسي يمكن أن يجد النظام فيه مسوغاتٍ لممارساته، بحيث يصل الأمر به وبشعبه إلى هذا الحال، خاصة في مثل هذا العصر؟ أيًّا كانت المقولات عن بن علي، ومبارك فقد يُذكر لهما فعلٌ حميدٌ واحدٌ يتمثل في أنهما استجابا للأمر الواقع، دون أن يمارسا مثل هذه الأفعال بالشعبين التونسي والمصري. حتى النظام اليمني امتنع ولا يزال يمتنع في نهاية المطاف عن استخدام أساليب النظام السوري التي اقترب العالم بأسره من الإجماع على أنها تدخل في خانة الإبادة الجماعية. يبقى أمامنا نموذج القذافي. الرجل الذي كان الجميع في العالم العربي يعرفون ويؤكدون، سرًّا أو جهرًا، خصوصية حالته التي قد لا يمكن وصفها إلاّ بالجنون. فهل تصبح هذه الحالة المثالَ الذي رضي النظام في سورية أن تكون قدوته؟! كيف تتبخّرُ بين ليلةٍ وضحاها كلّ شعارات الحداثة والتقدم، ويختفي معها الكلام المنمّق الجميل الذي سمعه القاصي والداني عن التناغم مع الشعب وإرادته، وعن ضرورة إدراك متغيرات العصر والحديث بلغته ومفرداته؟ وأي محاكمة نفسيةٍ وعقليةٍ وسياسيةٍ يمكن أن يقوم بها المرء ليُقنع نفسه بالقفز في خطفة عين فوق كل تلك الشعارات، والتعامل مع الشعب المسالم بطريقةٍ تذكّرنا بعقلية العصر الحجري التي تتمحور حول غريزة البقاء وحدها مصدرًا للتفكير والقرار، بغضّ النظر عن كل اعتبارٍ آخر! ثمة أسئلةٌ لا نهاية لها في هذا المجال تتعلق بالمنظومات الأخلاقية، أو السياسية، أو حتى الإنسانية البحتة. وهي أسئلة لا توجد لها إجاباتٌ منطقية بأي مقياس. ولا يمكن أن نُقاربها إلاّ من مدخل اليقين بأن النظام فقدَ كلّ ما له علاقة بتلك المنظومات التي نتحدث عنها، وأنه يعيش حالة إنكارٍ وضَعَته في عالمٍ غرائبيٍ خاص تصنعه غريزة البقاء، وتدعم استمراره الظنون والأوهام. أمّا من وجهة نظر الثورة والثوار، فيكفيهم فخرًا أنهم صبروا كلّ هذه المدة في وجه آلة القمع مع إصرارٍ كامل على رفض التدخل الأجنبي وعسكرة الثورة. يكفي هؤلاء بطولةً تأكيدهم على السلمية رغم كل محاولات النظام لجرّهم إلى ممارسة العنف الشامل والمنظم من المدخل الطائفي حينًا، ومن مدخل الإهانة والتعذيب وكل أنواع الضغط النفسي والعملي حينًا آخر. ولا يمكن تقدير حجم النُّبل الإنساني الذي يتحرك وفقه الثوار في ثورتهم إلاّ حين نتذكر أنهم عندما رفعوا لافتاتهم الأخيرة لم يطلبوا التدخل العسكري الأجنبي، وإنما طالبوا بحماية دولية للمدنيين العزّل. وهو مطلبٌ مشروعٌ لا يتضارب مع كل القوانين والشرائع. وهذه مسألةٌ لا يمكن المرور عليها مرور الكرام (أو اللئام ربما في هذه الحالة). بمعنى أن كل درجات وأشكال العنف الجنوني الرسمي الذي يقوم به النظام لم ينجح في كسر حالةٍ أخلاقية وسياسيةٍ مبدئيةٍ تمحورت حولها الثورة منذ البداية. وتتضح قيمة هذا الفعل الإنساني الراقي عند مقارنته بما ذكرناه قبل قليل عن كيفية إلغاء النظام لكل المنظومات الأخلاقية والسياسية، وكل ما يترتبُ عليها، مع أن آلة العنف والقوة العسكرية كانت بيده منذ اللحظة الأولى. لكن هذا الأمر بحدّ ذاته يبينُ للعالم أجمع أن مبدأ حقّ القوة لا يمكن له في نهاية المطاف أن يصمد أمام مبدأ قوة الحقّ. وبهذا يؤكد الشعب السوري أنه يُعيد تذكير العالم من خلال ثورته ببعض القيم الإنسانية الكبرى التي حسبَ الكثيرون أنها خسرت رصيدها العملي، وفقدت بالتالي وزنها المطلوب في الحياة البشرية. وأخيرًا، فقد يكون ممّا يؤلم الجميع رؤية حجم الإحباط الذي أصاب الشعب السوري من الموقف العربي الفاعل، إلى درجة أوصلته لطلب الحماية الدولية. فما عدا بعض الحالات الفردية، بقي النظام السياسي العربي في موقف المتفرج على ما يجري في سورية من عنفٍ جنوني تمارسه السلطة دون أي رادع. ورغم الملاحظات الكثيرة على المبادرة العربية الأخيرة، إلاّ أن مفرق الطريق يكمن في موقف الجامعة العربية في حال رفض النظام السوري للمبادرة، وهو الأمر الذي توحي به كل تصريحاته، وفي مقدمتها أن زيارة الأمين العام لا علاقة لها بأي مشروع أو مبادرة. والخطير هنا أن يتم تحوير المبادرة بحيث يُصبح هدفها الرئيس متمثلاً في إنقاذ النظام بأي شكلٍ من الأشكال، وهو ما لن ترضى به الثورة على أي صعيد. وستكون له مستتبعاتٌ خطيرة في كثيرٍ من المجالات. الأخطر من هذا أن تُصبح بعض أطراف المعارضة السورية جزءًا من مشروع إنقاذ النظام انطلاقًا من مواقف واصطفافات أيديولوجية لا علاقة لها بالمصلحة الوطنية التي يتحدث عنها الجميع. نُشير إلى هذا إشارةً دون تفصيل بسبب تصريحاتٍ صدرت عن البعض مؤخرًا تحت عناوين توحي بالاحتكار والإقصاء من جهة.. لكن الأسوأ أنها توحي من جهةٍ أخرى بتقديم تنازلات أساسية.. وباسم احتكار التمثيل.. وهو أمرٌ لن يرضى به الثوار بأي درجةٍ من الدرجات، والمؤكد أنه سيُصبح محرقةً سياسيةً لأصحابه في نهاية المطاف.