المكان: المركز الطبي الدولي بجدة. الزمان: ليلة سفر أستاذ الصحافيين السعوديين محمد صلاح الدين إلى أمريكا للعلاج. في ذلك المكان، وذلك الزمان، كان آخر لقاء لي بأبي عمرو -رحمه الله- إذ أكرمني الله -وقتها- بزيارته في المستشفى بصحبة أخي ورحيمي الأستاذ محمد حسني محجوب نائب رئيس تحرير هذه الصحيفة الغرّاء، وكان رحمه الله جالسًا على سريره، لا يبدو على محيّاه شيء من آثار المرض، وصافحناه، وعانقناه، فابتسم لنا ابتسامة عريضة، وأحسسنا بأنه فرح بزيارتنا، وإن لم ينبس ببنت شفة. ولأنني أعرفه منذ ما يزيد عن ربع قرن، كان ميسورًا عليَّ أن أحسَّ بمشاعره، وإن لم يتكلم؛ لأن جميع أصدقائه يعلمون أنه كان قليل الكلام، غزير الكتابة، يعبّر قلمه الرشيق عمّا بداخله، فيخرج من قلبه ليصل إلى قلوب كل قرّائه، كما قلت مرارًا وتكرارًا. وبعد أن غادرنا المستشفى وألسنتنا تلهج بالدعاء له بالشفاء العاجل، والصحة والعافية، تبادلنا أطراف الحديث حول ريادته -يرحمه الله- في الصحافة السعودية، وتتلمُذ كثيرٍ من الصحافيين والكتّاب على يديه، ولا يمثل جيلي -وهو جيل الأستاذ محمد محجوب نفسه- الجيل، أو الرعيل الأول ممّن تتلمذوا عليه، بل سبقنا إخوة آخرون يمثلون نخبة الكتّاب والصحافيين في المملكة عمومًا، ومنطقة مكةالمكرمة خصوصًا، وهم كثر قد نحصيهم أو لا نحصيهم عددًا. ومدرسة أبي عمرو الصحافية ذات أصول عدة، وأسس تترى، أولها كما أزعم: الالتزام، وأعني بالالتزام، الالتزام المهني الاحترافي، كما أعني به الالتزام الأخلاقي، أمّا الالتزام المهني الاحترافي فيعلمه كل كتّاب الأعمدة الأسبوعية واليومية، وخصوصًا اليومية التي خضتُ تجربتها لفترة وجيزة فقط، وعلمت مدى صعوبتها حين يسعى الكاتب اليومي لأن يفي بالتزامه في إطار موضوعيته التي يحرص على أن لا تضعُف، أو تخرج عن خطّه الفكري تأثرًا بكثرة الكتابة، وألاّ تتكرر الأفكار حين توشك أن تنضب، وتلك معاناة كبيرة حدّثني عنها أخي وصديقي وزميل عمري الأستاذ الدكتور سالم سحاب، الكاتب اليومي بهذه الصحيفة، كما حدّثني عن بعض الظروف والأحوال التي قد يمر بها الكاتب اليومي كالمرض، أو السفر، أو الشغل، أو الارتباطات العائلية، وكل تلك عوائق وشواغل عن الالتزام المهني. وإن كانت التقنية الباهرة التي نعيشها اليوم وسيلة لتذليل الكثير من تلك العقبات، كوجود الإنترنت، أو الفاكس على الأقل، ولكنّ فقيدنا الغالي أبا عمرو كان ملتزمًا مهنيًّا قبل ظهور هذه التقنيات جميعًا كما يعلم الجميع، أمّا التزامه الخلقي فيعمله الجميع أيضًا، فقلمه ظل مسخرًا لما يقرب من نصف قرن للذود عن قضايا الأمتين العربية والإسلامية، فكتب عن معاناة الأقليات المسلمة في كل أنحاء العالم، وفضح ما كانت تمارسه بعض الدول غير المسلمة من اضطهاد ضدهم، وجاء بمعلومات يمكن أن تُجمَع في كتب ضخام قبل ظهور الإنترنت، وتوفر المعلومة بسهولة ويسر، كما ناصر قضية العرب والمسلمين الأولى، قضية فلسطين بشجاعة فائقة، ولم تبهره اتفاقية السلام المزعومة منذ توقيعها للمرة الأولى عام 79م، وحتى آخر مقالة كتبها -رحمه الله-. وقدّر الله، وما شاء فعل أن يتوقف -رحمه الله- عن الكتابة بعد اشتداد المرض عليه، قبل أن تظهر بوادر الربيع العربي، وقبل أن تنجح الثورتان المصرية والتونسية. وتوفي إبان نجاح الثورة الليبية، وقرب نجاح الثورة السورية -بإذن الله تعالى- وإلاّ لرأينا من كتاباته ما يختلف عن كل ما يُطرح، فمن سمات مدرسته البارزة الشجاعة في الحق الذي لم تكن تأخذه فيه لومة لائم، ولم يكن -رحمه الله- يهتم إلاَّ لقضايا الأمة الكبرى المصيرية، ولا يشغل نفسه بسفاسف الأمور؛ لذلك كان الكثير من قرّاء هذه الصحيفة الغرّاء التي تعج بالكتّاب المتميّزين، كانوا يبدأون بقراءة الصفحة الأخيرة، ويرقبون الفلك وهو يدور، ثم ينطلقون إلى بقية الصفحات. أقول وبالله التوفيق: إننا نحتاج أن نوفّي هذه الشخصية الرائدة حقّها من التكريم ليس بكتابة المقالات الصحافية العابرة فحسب، بل بخطوات عملية تؤدّي شيئًا من حق محمد صلاح الدين على الصحافة والفكر والأدب. ومن تلك الخطوات أن يُهتم بمدرسته الصحافية في أقسام الإعلام في الجامعات السعودية، وفي شُعَب الصحافة على وجه التحديد، وأن يُوجّه الطلاب والطالبات في الأقسام التي بها دراسات عليا لإعداد أطروحات ماجستير، أو دكتوراة عن هذه المدرسة الصحافية من جوانب عدة، كالجانب المهني، والجانب الأخلاقي كما أسلفت. وقد ترك -رحمه الله- تراثًا غنيًّا يجد فيه الدارسون معينًا ثرًّا لكتابة الرسائل العلمية، والرسائل العلمية أفضل بكثير من مجرد إخراج الكتب الإعلامية التي تجمع بعض مقالات أديب أو صحافي بعينه، إضافة إلى ما كُتب عنه في الصحافة كما رأينا في كثير من الكتب التي ظهرت مؤخرًا عن كتّابنا وصحفيينا المتوفين. كما اقترح على هذه الصحيفة الغرّاء أن تنشر كثيرًا من مقالاته الصالحة لهذا الزمان في زاويته نفسها تحت عنوان: (من قديمه الجديد)، وأنا واثق أن ما يصلح منها يبلغ مئات المقالات، وأذكر أن إحدى الصحف الكويتية نجحت في ذلك قبل عدة سنوات، كما أتمنى أن تحمل بعض القاعات الثقافية والعلمية المهمة في الجامعات والأندية الأدبية والصحف المحلية اسم: محمد صلاح الدين. تلك بعض لمسات الوفاء التي يستحقها الفقيد الكبير، التي لا تعدل جهده الفائق في خدمة أمته، ووطنه.