لم أكن قد تعرّفتُ عليه على المستوى الشخصي بعد انتقالي من مقر الشركة السعودية للأبحاث والنشر في لندن إلى مقرها في جدة.. كان ذلك عام 1985م. وطوال خمس سنوات قضيتها في الشركة في مهمّة شملت نقل جريدة «المسلمون» الدولية من بريطانيا إلى المملكة، وما سبق ذلك من تكوين فريق عمل جديد، وأنا أقرأ له، وأسمع الكثير والكثير عنه، على أنني توقّفتُ كثيرًا أمام كلمة «الأستاذ» التي يحرص كبار شخصيات الشركة السعودية للأبحاث والنشر على ترديدها، كلّما جاء الحديث عنه.. فالناشر هشام حافظ -يرحمه الله- يتحدّث عن «الأستاذ»، وكذا شقيقه محمد حافظ. والمدير العام أحمد محمود يتحدّث عن «الأستاذ»، والعضو المنتدب حينها محمد معروف الشيباني يتحدّث كذلك عن «الأستاذ». ولأن ذلك كذلك، فقد تصوّرتُ «الأستاذ» محمد صلاح الدين رجلاً كهلاً، يتكئ على عكازين، قبل أن أُفاجأ بشاب رشيق، يصعد على سلالم الدرج محيّيًا كلَّ مَن صادفه من العمّال، والمحررين، والإداريين على السواء؛ ليتردد المصطلح من جديد، ولأتأكد من أنّه بالفعل «الأستاذ» محمد صلاح الدين. في تلك الحقبة من القرن الماضي، كانت الحروب والصراعات على أشدّها في أنحاء العالم، وعندما عدتُ من إريتريا حيث تشرّفتُ بتغطية ميدانية للحرب هناك، سألني الراحل هشام حافظ: لماذا لم تذهب إلى إثيوبيا؟ قلت: لماذا؟ قال: لأن «الأستاذ» يرى تغطية الموضوع من كل جوانبه، وبالطبع كان «الأستاذ» الناصح هو محمد صلاح الدين، وكان لابد من السفر إلى أديس أبابا حيث تعرّضت للاعتقال هناك! عدتُ من إثيوبيا محمّلاً بالعديد من الموضوعات، والحوارات، فضلاً عن انفرادي بمقابلة الرئيس منجستو هيلا مريام. وفور البدء في النشر قال السيد محمد حافظ: إن «الأستاذ» يرى ضرورة السفر إلى جيبوتي! قبل أن يخبرني «الأستاذ» أحمد محمود بأن «الأستاذ» يقترح كذلك سفري إلى الصومال!! لقد كان «الأستاذ» بحق مدرسة للصحافة الميدانية الحقيقية، لا المعلّبة. على أن نصائح «الأستاذ» لم تقتصر على الحروب في القرن الإفريقي، فقد امتدت توجيهاته تارة عبر الناشرين، وأخرى عبر المدير العام؛ لأجد نفسي تارة على الحدود السنغالية الموريتانية، وأخرى على الحدود السودانية الأوغندية، وثالثة على الحدود الباكستانية الأفغانية، وهكذا قضيتُ جانبًا كبيرًا من عمري الصحفي في الميدان.. ويا له من ميدان! هل كنتُ أتحدّث عن نفسي؟! أم عنه؟ عن «الأستاذ»؟ هل كانت حصيلة مشواري الصحفي في ساحات الحروب من بنات أفكاري، أم أفكار «الأستاذ»؟! وبعبارة أخرى: هل كان «الأستاذ» ينفّذ أفكاره الصحفية الميدانية من خلالي؟ أم كان حبّ المهنة؟ أم حبّ تلاميذه في الشركة السعودية، بدءًا من الناشرين، ووصولاً لطاهر أبو بكر، ومرورًا بالعديد من رؤساء التحرير؟! دارت الأيام، واستدارت، وتم الإعلان عن جائزة كبرى في الصحافة العربية تحمل اسم الراحلين علي وعثمان حافظ، ولأن الرجلين هما والدي الناشرين هشام ومحمد، فقد تصوّرت أنه من غير اللائق أن يتقدم للجائزة أحد أبناء الشركة الراعية لها قبل أن يأتي التوجيه: هذه فرصتك! تقدّمتُ للجائزة، وضمّت هيئة التحكيم الصحفي الكبير مصطفى أمين -يرحمه الله-، والكاتب الكبير محمد العامودي، والناشرين هشام ومحمد حافظ.. و»الأستاذ»! كانت المنافسة قد انحصرت في العمل الصحفي الميداني بيني وبين الأديبة الكبيرة أحلام مستغانمي، وحين إنحازت أصوات المحكّمين لي، احتضن «الأستاذ» أمين الجائزة -حينها- أحمد محمود، وكأنّ الفائز محمد صلاح الدين، وليس كاتب هذه السطور! هذه باختصار شهادة صحفي مصري، ليس في الراحل الكبير فقط، وإنّما في عمالقة الصحافة السعودية.