رغم ظهور سيف الإسلام القذافي في ساحة الشهداء في العاصمة ثم اختفائه إلى باب العزيزية معقل والده وحكومته إلا أنّ ذلك لا يغير من حجم الانتصار الذي حققه الثوار في دخولهم العاصمة الليبية والتي حققت اختراقاً نوعيا كبيرا قرّب بصورة حاسمة الانتصار الشامل وإسقاط حكم العقيد القذافي وأضحت القضية مرهونة بين أيام أو أسابيع قليلة وفقا للتقدم الذي أحرزه الثوار في قلب العاصمة , حيث سقطت أحياء تاجوراء وسوق الجمعة وأحياء أخرى في قبضة الثورة الليبية واشتبك الثوار مع بقايا الكتائب في باقي الأحياء فيما يتركّز حصارهم على باب العزيزية ويتقدمون للزحف إلى معقل القذافي الأخير وإسقاط مواقع التلفزيون والإذاعة لاستعادتها لصوت الشعب الليبي . ورغم رهانات ومنح القذافي الضخمة لأوروبا إلا أن الغرب أدرك أن حراك الشعب الليبي وقوة العزيمة والإرادة الثورية أكدت أن فرص القذافي باتت معدومة لإعادة صناعة ذاته الرئاسية التي عانى منها الشعب الليبي حربا على الإنسان والحرية والقيم بل وكل متنفس مدني , وهي كذلك في وحشية سلسلة المذابح التي نُفذت طوال عهده الدموي قبل الثورة وأثناءها وأبرزها مجازر السجون الليبية التاريخية , فقرر الغرب غير المأمون تاريخياً أن يتقاطع مع المستقبل الجديد المرجّح قدومه ويضيق عليه بحسب مصالحه وليس مع تاريخ الدكتاتورية العربية القديمة , واضطر الثوار أن يقبلوا هذا التقاطع ويعزلوه عن الجغرافية الأرضية لتحييده في إطار تقاطع مستقبلي يضمن سلامة الأمن القومي لليبيا الحرة وهي من مهام حكومة الثورة الجديدة . وكان رهان القذافي الآخر يُصعّد على تعزيز الفرقة العشائرية بين المجتمع الليبي المحافظ ويضخ العقيد كل قوته لاستثارة هذا الطيف القبلي ولكن ومع بدء معركة طرابلس الحاسمة وحركة التنسيق القوية بين أهالي طرابلس وبين الثوار ووحدة إطارهم التنفيذي في جهاز الثورة الذي برز مع الساعات الأولى حين بدا واضحا أن وهم القذافي الآخر ينهار , خاصة مع تواتر الأنباء من انضمام قيادات وشخصيات عشائرية مهمة للثورة الليبية مما كان يراهن القذافي على بقائهم خارج إطار الثورة , وكان لإسناد الثورة قرار وقيادة الهجوم التنفيذي لإسقاط النظام في قلب طرابلس إلى القيادات والثوار الطرابلسيين وإسنادهم الفوري من ثلاثة محاور من قوى الثورة الزاحفة لتحرير طرابلس تأثير بالغ في اختراق الثورة تحصينات القذافي وانهيار مواقع رئيسية لكتائبه تعزز من سلاسة سقوط العاصمة بيد ممثلي الشعب في الثورة الليبية . وكان من الواضح قوة وضبط حركة معركة الحسم الكبرى لدى مرجعيات الثورة الدينية والوطنية فوصية الإمام الغرياني احد ابرز موجهي الثورة وهو من اكبر فقهاء الغرب الإسلامي للثوار وإعلانه السلم الشرعي لكل مستسلم , ثم حديث المنسق العام للثورة الليبية بان كل من استسلم أو ألقى سلاحه ودخل المسجد فهو آمن وأنهم إخوةٌ لنا في الدين والوطن , والتركيز على وحدة الصف ومبدئية فقه التسامح والعفو المستخلصة من فتح مكة في توافق تاريخي مذهل للمعنويات الشعبية والثورية الليبية , إضافة إلى تجسيد هذه المعاني ومستقبل صناعة المشروع السياسي بروح وطنية وحدوية , وبالعموم كان برنامج إدارة المجلس الانتقالي بتوجهاته الوطنية والإسلامية المتعددة ورغم الاختلافات المتوقعة في ظل ظروف ليبيا ناجحاً وموفقاً وهو لا يزال يحتاج إلى تكريس هذا النجاح في برنامج إنهاء ما تبقى من التمرد العسكري لكتائب القذافي وإرساء الدعائم الرئيسية المهمة للمشروع الوطني الانتقالي , المهم أن معركة الحسم الكبرى لضم طرابلس تسير بصورة ايجابية وديناميكية ناجحة تتجاوب معها باقي جيوب التمرد المنهارة في أنحاء ليبيا التي يحسمها الثوار في هذه الساعات القادمة . إذن هذا الختام العسكري المرتجى يؤمن دولة ليبيا الحرة ومشروعها السياسي التقدمي وفقا لهويتها وثوابتها الوطنية والعربية الإسلامية , وهي حين تؤسّس لوحدة الشعب وإدارة تعدديته الفكرية والمناطقية والعشائرية بهذا الحراك المنضبط لمعركة تحرير طرابلس فهي تُعطي لها رصيدا مهماً للعبور إلى الدولة الحقوقية التي انتظرها الشعب الليبي طويلا , وبلا شك أنهم أمام مهام ملفات عديدة تنتظر هذه المرحلة وهو ما يحتاج توافقا وتقديرا مشترك من كل توجهات الثورة الليبية وترحيل قضايا الخلاف إلى ما بعد التمثيل الدستوري الديمقراطي لأبناء الشعب الليبي . صحيح أن ضربات الناتو الجوية كبحت سلسلة المذابح التي بدا النظام ينفذها منذ أيام الثورة الأولى وهي قضية مهمة , لكن الفعل المركزي لحركة صمود الثورة في أسطورة مصراتة التاريخية وباقي المدن كان الفعل المركزي بعد رعاية السماء للتقدم الثوري الذي وصل إلى معركة تحرير طرابلس , ولا نُذيع سرا حين نقول انه تأكد أن الأطلسي كان يحاول كبح جماح تقدم الثوار لأجل توسيع فرص حالة من الفوضى تعبر بمصالحه بصورة اكبر ابتزازاً لمستقبل الثورة الليبية , وخاصة منع وصول السلاح إلى الجبهات , وكان من ابرز عوامل النصر تقدم الثوار إلى معركة الزحف الأرضي الذي اعتمد بصورة كبيرة على الدعم القطري في امدادات السلاح الأخيرة , وصفقات السلاح التي عقدها الثوار مع أطراف أُخرى بصورة منفصلة عن الأطلسي وهو ما سهّل من تعجيل عملية الحسم القائمة حاليا في قلب طرابلس . ومن هنا فان أمام حكومة الثورة مهمة دقيقة جدا لتخليص الثورة من أي فواتير ابتزاز لحلف الأطلسي والدول الراعية فيه سواء كان ذلك الابتزاز ماديا أو سياسيا أو جيواستراتيجيا , وحركة الوعي الذي تبديها شخصيات الثورة تؤكد قوة إدراكهم لهذه الحقيقة , لكن من المؤكد أن الأمر يحتاج إلى فطنة وتدرج لا يُعرّض الأمن القومي الليبي لأي اختراق ولا يُدفع به أيضاً في مواجهات مكلفة على مستقبله وانتصاره التاريخي , إنما بإدارة هذا الملف من خلال القوة الوحدوية الوطنية الجديدة وتمثيلها الديمقراطي وعزيمتها الوطنية وحكمتها في استثمار حركة الاعتراف الجديدة لليبيا الحرة في أركان العالم ودحرجة الملف الليبي عبر هذه السياسات من قبضة المعسكر الغربي حتى يستقل الملف وطنيا بالكامل وقد يستغرق ذلك وقتا لكنه أفضل من المعالجات الشرسة . بناء الدولة الجديدة في ليبيا الحرة سيحتاج إلى وقت ومواجهة حسّاسة مع الظروف المحيطة بانتصار الثورة في شهورها الأولى , والوحدة والحكمة والتمثيل الديمقراطي وترتيب الأولويات مع الاعتراف بالاختلاف سيكون منهجا ناجحا لتدشين المستقبل الجديد الذي يواجه إرثا كبيرا من تركة ابرز أنظمة العصر في وحشيته وإرهابه , لكن الشعب قادر على النجاح باستحضار أرواح الشهداء وانتصار الثورة الجديد باعتباره استكمالا لمشروع قائد الغرب الإسلامي العظيم عمر المختار وان أبناءه أكملوا المهمة وحرروا الأرض والإنسان .