يشكو كثير من الشرعيين تطاولَ الجهال عليهم، ومزاحمة غير المتخصصين بالشرع للمتخصصين فيه، وبكون ذلك لا يقع في بقية العلوم التخصصية الأخرى، فلا ينافس الطبيبَ غيرُ الطبيب، ولا ينازع المهندس غير المهندس. والشرعيون محقون في هذا التوصيف للواقع، صادقون في حصول هذا الخلل. لكن يفوتهم أنهم ربما كانوا شركاء في أسباب حصوله، بخطأ تعاملهم مع الناس؛ إذ الخطأ إذا عمَّ وانتشر، لا يمكن أن يكون بسبب خلل عند المخطئ وحده، بل لا بد من وجود عوامل جعلته ظاهرة اجتماعية منتشرة. فعندما لا يجيب العالم عن سؤال المستعلم، ولا يزيل إشكال المستفهم، مع تكرار السؤال والاستشكال، لن تنتهي القضية بأن يقال له: إنك غير متخصص، ولا يمنع من تطاوله أن يقال له مثلا: أنت صحافي لا يحق لك الكلام في الشرع. ولن يُنهي القضية، ولن يمنعه من التطاول؛ إلا جواب سؤاله ودفع إشكاله، أو الإثبات له بأنه عاجز عن فهم المسألة لشدة عمقها. وإلا فهو معذور إن اعترض؛ لأن ديننا لا يعرف الكهنوت. ولذلك فعندما نأمر الناس باحترام العلماء، فعلينا أن نطلب من العالم قبل ذلك أن يحترم عقول الناس، فلا يطالبهم بإلغاء عقولهم، بحجة أنهم غير متخصصين. وبين ممارسة الكهنوت وواجب احترام أهل العلم شعرة من الفرق: هي أن الكهنوت يقوم على الانقياد دون قناعة، بحجة التسليم للعالم، وأما احترام العالم فيقوم على قدرة العالم على الإقناع بصحة قوله أو الإقناع بعجز المعترض عن فهمه. وبغير ذلك سيمارس العالم الكهنوت بحجة الاحترام، أو أن العالم هو الذي سيسقط بكهنوته وباحترامه معًا!! وهنا دائما ما يستخدم الكهنوتي حجة التسليم للشرع، رافعا صولجانها في وجه كل مستشكل ومعترض، جاعلا بذلك التمردَ على كهنوتيته تمردًا على الشرع. فيتهم مخالفيه بعدم التسليم لله تعالى، مادحا المسلّمين له الخاضعين لعبوديته بالإيمان والتسليم لحكم الله عز وجلّ!! فأقام اجتهاده مقام علم الله تعالى!! فهو في حماسته غير المنضبطة للدفاع عن الشرع، وطئ هو نفسه الشرع في مقتل، وهو (إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه)!! وهكذا يسيء الصديق غير الحكيم إساءة تفوق عداوة العدو، وهو يريد رد العدوان!! وينسى هذا المنافح بغير حكمة أن التسليم للشرع ليس محلا للجدل لدى المسلمين جميعهم، فالمسلم الذي أسلم واستسلم وانقاد؛ وهذا هو الإسلام، وهذا هو معناه: (الاستسلام والانقياد) = لا يمكن أن يكون مستحقًا لوصف الإسلام إلا أن يكون مستسلما لحكم الله خاضعا لأمره. وما كان ينبغي إثارة مسألة التسليم عند المسلم؛ لأن التسليم للشرع بديهي من بدهيات الإسلام. وافتراض أن مسلما من المسلمين لا يسلّمُ للشرع هو افتراض لكُفره، ولا يجوز تكفير مسلم بافتراضاتٍ تخالف يقينَ إعلانه الإسلام. ولا يجوز في حق المسلم في شأن التسليم إلا أن يُصحح له خلل التفريق بين الأمور التي يظنها ليست من الدين المقطوع المتيقَّن، وهي من ثوابت الدين اليقينية، فنبيّنُ له أنه من الدين، وأنه يقينيُّ في انتسابه لحكم الله تعالى وأمره (فيما لو كان كذلك فعلا). هذه هي صورة الخلل الوحيدة التي تقع للمسلم فيما صورته عند المتعجل (أو الباغي عليه بغير حق) أنه عدم تسليم؛ لأن مطلق عدم التسليم كفر مطلق، والكلام كله إنما هو عن المسلم، لا عن الكافر. وعلينا أن نتنبّه في هذا السياق أن (ضعف التسليم) وصف خاطئ لمن أنكر مقطوعا به بسبب جهله به، والوصف الصحيح له إنما هو أن يقال عنه: إن تسليمه كامل، لكن علمه بما يجب التسليم به هو الناقص؛ لأن التسليم إن نقص بعضه ذهب كله، ولا يثبت بعضه إلا بثبوت الكل؛ فمن ردَّ على الله حكما واحدا مع علمه وإقراره بأنه حكم الله فلا إقرار له ولا تسليم، وإن ادعى التسليم فيما سواه؛ لأن التسليم للإله تسليم للطاعة المطلقة التي لا تقبل التجزُّؤ. ولذلك قلنا: إن افتراض كون المسلم غير مسلّم في جزئية واحدة هو افتراض لكفره. فعلينا أن نضيق دائرة الاختلاف في دائرتها الحقيقية: فالنقاش إنما يدور بين بعض الشرعيين وغيرهم من المسلمين حول صحة نسبة أمر ما للشرع، فقد يدعي الشرعي (الذي يلبس لبوس العالم بالشرع) أن شرع الله ثَم، ولا يكون الأمر سوى أنه يظن ذلك، يظنه باجتهاد صائب أو باجتهاد خاطئ. فيأتي أحد المسلمين مناقشا في صحة نسبة ذلك الأمر للشرع، فيٰبكّت ويُسكت بحجة التسليم للشرع! وهذا حينها لن يكون تسليما للشرع في الحقيقة، بل هو تسليم لاجتهاد ذلك الشرعي، وهذا التسليم هو رأس مال الكهنوتي، وسلطان كل مستعبد للعقول التي تَعبّدها الله تعالى بعدم العبودية إلا له. وإذا أخطأ مسلم في تصور مسألة شرعية خطأ متيقنا، فهناك طريقتان لإعادته فيها إلى جادة الصواب وهي: - إما أن يوضح العالم له خطأه بالأدلة الصحيحة المقنعة، مجيبا له عن استشكالاته، مبينا له سبب خطئه. - وإما أن يقنعه بعمق المسألة، وبعجز غير المتخصص عن فهمها، لا بمجرد ادعاء ذلك (كما يحصل ذلك غالبا، وفي المسائل غير العميقة أصلا كثيرا أيضا)، وإنما يبين له عجزه بذكر مقدمات نتيجة هذه المسألة التي يجهلها، وبتذكيره أنه كمن يحاول فهم أعمق مسائل الرياضيات وهو لا يعرف إلا مبادئها. لكن لا بد أن يكون إثبات العجز عن الفهم إثباتا تفصيليا لكل مسألة، ولكل مسألة شرعية عميقة وسائلها التفصيلية الخاصة بها الدالة على عمقها. فلا يصح ولا يكفي أن يقال للسائل: إنك لا يمكن لك الخوض في هذه المسألة، لتعمقها في التخصص؛ إلا إذا كانت دلائل تعمقها ظاهرة حاضرة. وحينئذ يذكرها العالم للسائل، ليقنعه بأن العقل واحترامه هو نفسه الذي يوجب عليه في هذه المسألة ألا يخوض فيها؛ لأن العقل لا يجيز الخوض فيما يجهل. ومشكلة كثير من العلماء أنهم يكثرون من المطالبة باحترام التخصص، حتى فيما لا مزية فيه للمتخصص على غيره، لوضوحه. وربما دل على استكثارهم بالتخصص في غير محله: أن بعض المتخصصين من أمثالهم يعارضهم! فتجد مسألة اختلف فيها الأئمة الأربعة اختلافا معتبرا، مما يدل على أنها مسألة ظنية الأدلة، ثم يريد أحد العلماء المتأخرين من الناس أن يتابعوه في اجتهاده، ويريد إلزامهم باجتهاده، محرما عليهم غير ما يقول، بحجة أنه متخصص دونهم؛ وينسى أن متخصصا مثله، بل إن إماما يخضع له المتخصصون كان قد خالفه من قبل، وتابعه أئمة كثيرون، يتشرف هذا العالم المتأخر بكونه قد تخرّج قريبا من التتلمذ عليهم!! وهناك مشكة أخرى تخص طريقة ذكر العالم لعمق المسألة، وهي إذا قال ذلك باستعلاء وتعاظم لنفسه، وباستجهال وتحقير لمن يخالفه. وهذه ليست طريقة ورثة الأنبياء، وليس هذا هو منهج الأدلاء إلى سبيل الهداية. فالعلماء حقا هم أكثر الناس تواضعا للناس، وأكثرهم تذكرا لواجب نعمة العلم، وهو التعليم برفق ومحبة، بلا امتنان منه عليهم ولا تكبر، وهم أرحم بالناس من أن يجرحوهم، وأصدق مودة لهم من أن يسيئوا إلى مشاعرهم. * عضو مجلس الشورى