يقول البعض ما لا يدرك كله لا يترك جله، ويقول آخرون إن السياسة هي فن الممكن، ويتهمون العرب والفلسطينيين على وجه الخصوص بأنهم فرطوا في كثير من الحلول التي طرحت عليهم والتي كان يمكن أن تنقذهم من كثير من معاناتهم لأنهم تمسكوا ببعض المبادئ مثل حق العودة وحرية القدس، وفي كل صراع فكري أو مسلح يدب الخلاف في صفوف الطرف الأضعف حول جدوى البراجماتية مقابل أهمية التمسك بالمبادئ، ولقد قرأت شيئاً عن هذا الحوار في كتاب جميل يتم تداوله هذه الأيام ويؤرخ لحقبة من تاريخنا الوطني تحتاج إلى أن تدون وتدرس وتحفظ شهادات معاصريها. لا شك أن البراجماتية تعبر عن منطق وموضوعية وعن ادراك لموازين القوى وحرص على عدم إلقاء النفس في التهلكة وهي كلها خصال لا يستغني عنها المرء الحصيف في مواجهة تحديات الزمان وظروفه، ولكن الصحيح أيضاً هو أن البراجماتية اذا اتخذت ذريعة للتفريط في الحقوق فإنها تنتقل من خانة الموضوعية إلى خانة الاستسلام، ولذلك فإن على كل من يرفع لواء البراجماتية أن يضع إطاراً للمبادئ التي لا يجوز التنازل عنها وإلا أصبح الانسان غريباً عن فكره وثوابته العقدية أو الفكرية أو حتى الإنسانية، ولا مانع ضمن إطار المبادئ الأساسية أن يتحرك المرء في مساحة عريضة من الصياغات والسلوكيات التي تعبر عن المرونة والحرص على الوصول إلى التفاهم والتوافق مع الأطراف التي يتعامل معها. إن الإنسان الذي يكذب، والإنسان الذي يتنازل بشكل نهائي عن حق تمتلكه الأجيال ولا يستأثر به فرد، والإنسان الذي يؤثر سلامته الشخصية ومصالحه الآنية على حساب سلامة وطنه ومصالحه، والإنسان الذي يعبر عن العجز ويستمرئ السبل الملتوية، مثل هذا الإنسان لا يمكن له أن يبرر سلوكه أو يفسره بمتطلبات البراجماتية، إذ إنه قد فرط في المبادئ وصار مسخاً لا يشبه الكيان الذي بدأ به. في علم المفاوضات يطالب الفريق المفاوض بأن يحدد لنفسه سلفاً حدين فاصلين، أولهما هو حد الانسحاب الذي يفضل الفريق أن ينسحب من المفاوضات على أن يتخطاه، وتحديد هذا الخط مهم أن يتم مسبقاً وبعيداً عن ضغوط العملية التفاوضية وحرارتها لكي يكون معبراً بعقلانية وموضوعية عن الثوابت الأساسية في مواقف ذلك الطرف، أما الحد الثاني فهو يعبر عن النتيجة المستحبة التي يسعى الفريق التفاوضي إلى تحقيقها ولا بأس إن اضطر إلى التنازل عن بعض مقوماتها طالما أنه لم يتجاوز الحد الأول، وبين هذين الحدين يتضح الفرق بين المبادئ والبراجماتية، أما أن يسعى البعض إلى تمرير كل تنازل واعتباره نوعاً من أنواع البراجماتية فإن ذلك لا يعدو كونه خداعاً للنفس قبل أن يكون خداعاً للآخرين، وهو في نهاية المطاف مدعاة إلى فقدان الإحترام للذات قبل فقدان احترام الآخرين. [email protected] للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (19) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain