كانت الوسائل التقليدية في نشر الأفكار وإذاعتها لا تتجاوز الكتب والأسفار المحمولة من مصر إلى آخر ومن رقعة جغرافية إلى سواها من بلاد الخلافة أو الإمبراطورية المترامية الأطراف . مع دخول عصر النهضة الأوروبية وتطور الصناعة الميكانيكية والآلية وظهور آلة الطباعة واختراعها على يد يوهن جوتينبيرج اكتسبت المثاقفة عنصرا جديدا من عناصر النشر والترويج , فالكتاب أصبح سهل الطبع ومتيسر المنال بعد أن كانت عملية الطباعة تستغرق الكثير من الوقت والجهد , وقد تقع أخطاء مريعة وفظيعة أثناء تدوين الكتب وما يحصل أثناء ذلك من تصحيف وسوء في النقل أو تحوير في بعض المفردات التي لطالما أتعبت المحققين المعاصرين في ملاحقة عيوبها ومثالبها . ومع دخول القرن الحادي والعشرين باتت الوسائط التقنية هي الوسائل المثلى لنقل المعلومة , ولنقل مثل ذلك عن الأفكار والمذاهب والأيديولوجيات التي جعلت من التقنية جسرا يجمعها مع المريدين والتلاميذ . وإذا ما أخذنا الإنترنت كعينة واضحة على استغلال المثقف للوسيلة التقنية للترويج والإفصاح عن أفكاره بعدما كانت هذه الأفكار حبيسة الكتب العريضة أو الرؤوس التي لا يمكن التنبؤ دائما بما داخلها , فإننا سنلفي في هذه الشبكة المعلوماتية تمثلات وتجسدات للكيانات المثقفة والمفكرة جعلت من هذه الشبكة ملاذا لأفكارها ومكانا افتراضيا لممارساتها النقدية , فالمنتديات الإنترنتية عند ظهورها في أواخر التسعينات ساهمت بنشر الوعي عبر وسيلة إلكترونية تملك سرعة ضوئية خارقة مقارنة بالوسائل البدائية والتقليدية ( الكتاب والصحيفة قديما ) ثم باتت المنتديات نفسها مكانا افتراضيا تقليديا وظهر التململ على مشرفي هذه المنتديات وتعرضت بعضها للإغلاق وبعضها الآخر للإفلاس أو التقادم الزمني . أما برنامج البالتوك فقد استضيف فيه عشرات الكتاب والباحثين وأقيمت بواسطته المحاضرات والندوات والنقاشات الساخنة والمناظرات الحامية بين الأطراف المتباينة في آرائها ووجهات نظرها . وجاء الفيسبوك ومعه شحنات هائلة من التغيير الاجتماعي والتثوير التقني وساهم بصورة كبيرة وضخمة في قلقلة الركود السياسي في بعض الأقطار العربية , بل إن البعض بالغ بدوره وجعل منه الوسيط الذي يعود إليه الفضل بنشر فكر الثورة مما دعا بعض الدول العربية إلى حجبه ومنع متصفحي الإنترنت من زيارته . والمتابع لكل هذه التحولات في الوسائط التقنية الإنترنتية سيلحظ أن لكل مرحلة نجومها , فمرحلة المنتديات كان لها نجومها الذين تقاعدوا وصار بعضهم لا يسمع به الآن إطلاقا .. وكذلك مرحلة البالتوك صنعت نجوما آنذاك هم الآن في عداد المغمورين الذين ابتلعت وجودهم الوسائط الجديدة .. أما الفيسبوك فهو يحتوي أيضا نجومه الذين يصل متصفحو مواقعهم الشخصية إلى عشرات الآلاف .. وهؤلاء الفيسبوكيون أيضا سيتقادم عليهم الزمان وسيطويهم بسرعة كما طوى غيرهم من المغادرين . إن هذا التسارع الفظيع في انتشار الوسائط التقنية وتزايد شعبيتها بين مستخدمي الإنترنت والأجهزة الحاسوبية المحمولة والجوالات ذات التقنية المعقدة والقابلة بنفس الوقت للاستخدام الشبكي , سيؤدي إلى انتشار المعلومة أسرع من ذي قبل وبصورة لا تقبل الإحاطة ولا الاحتواء بسهولة , يعني هذا أيضاً أن لكل وسيط تقني مثقفيه الذين يبرزون بسرعة ويصلون القمة ولكنهم – حال مجيء وسيط تقني جديد – سرعان ما يشعرون بالغربة ويسقطون سريعا لتحل طبقة جديدة من المتمكنين من هذا الوسيط الأكثر حيوية , وهؤلاء بدورهم ستسقط جماهيريتهم حال ظهور وسيط آخر يشغل موقع الوسيط الذي يبدعون فيه . إن هذه التقنية الثورية في الإنترنت أو أجهزة الجوال الحاسوبية الصغيرة كالآيفون والبلاكبيري والآيباد هي كلها تقنيات تسرع من نشر المعلومة ولكنها بنفس الوقت تساهم باضمحلال التحليل النقدي , فالإنسان يلتقط الكثير جدا من المعلومات , ولكن هل هذا الإنسان سيحلل هذه المعلومات تحليلا دقيقا وممحصا ؟ إن سرعة وصول المعلومة لا يعني ببساطة سرعة التحليل ولا دقته , بل لربما كان الفيضان المعلوماتي سببا من أسباب التسرع في الاستنتاج والتهور في ضرب الحسابات والتقليد في محاكاة الآخرين سلوكا وفعلا وتفكيرا . والمراقب لكل هذه الوسائط التقنية وتبدلاتها الكثيرة وتمرحلاتها الحساسة سيدرك جيدا أن عدد النخب الثقافة كان قليلا جدا مقارنة بالعدد الهائل للتابعين والمقلدين والمجترين للآراء , فظهور الطبقات الثقافية والنخب الفكرية يعقبه – ضمن قوانين التلازم والسببية – ظهور فئة مقلدة وتابعة , وهذا هو في حكم الضرورة التي لا مشيئة للإنسان أمامها , فالإنسان هو الكائن الذي استعبدته قوى كثيرة عبر التاريخ , وإن كان في هذا الزمان يشتكي من عبودية الآلة التي خلقها بنفسه , فإنه بنفس الوقت سيعاني وسط هذه الآلات من سيطرة قوى عليا عليه , قد تتمظهر حينا باسم الدين وحينا آخر باسم السياسة , لكنها في أحيان مشابهة ستظهر باسم الثقافة والفكر والإلهام العقلي ! [email protected] للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (28) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain