في زمن التقدم في جميع سبل الحياة من علم، وإعلام، وتكنولوجيا إلى ما لا نهاية... ما زالت المهزلة التي يصطنعها الإنسان في كل مكان وزمان مستمرة وما زال الإنسان الذي يدعي بأنه متقدم في زمن التقدم متخلفًا باستخدامه أساليب قديمة عفا عليها الزمن، وهو لا يشعر أو يشعر ويتغابى أو (يطنش) حتى في بلد التقدم والعلم الولاياتالمتحدةالأمريكية التي عشت فيها، هناك من هو متخلف وغبي وجاهل، ولكن الشخص لا يعلم الواقع إلا عندما يعايشه والحقيقة إلا عندما يلتمسها وليس كل من كان وطنه متقدمًا فهو كذلك، وليس كل من كان وطنه غنيًا فهو غني، فأمريكا بلاد الأغنياء والثراء الفاحش يوجد فيها أكثر من ثلاثين مليون متشرد لا يملكون بيوتًا تأويهم، ويطلق عليهم كلمة (homeless). وهناك من يدعي بأنه محترم وهو غير محترم، والبعض يتظاهر بأنه متقدم ولكن سلوكه يظهر بأنه ما زال في قاع التخلف. فهل يعقل أن نقول إن كل رجل مناسب في المكان المناسب؟ البعض وصل إلى هذا أو ذاك المكان ليس لأنه مناسب ولكن لأنه لديه حرف (الواو) وليس كل من لا ينشر له بأن كتاباته سخيفة أو ركيكة وغير مقبولة فهذا غير صحيح ولكن هناك أسباب تزيد من مهزلة البشر، وهناك أيضًا من يصبح ويمسي علينا بالسخافة والمهزلة والدجل الفكري ولا أحد يستنكر، والسبب أن الدنيا ليست بخير. فمن كبر (واوه) كبر مقداره، ومن لا يملك (واوًا) أصبح (فأرًا) مع احترامي للقراء. وما حنق وزعل الأديب محمد صادق دياب رحمه الله إلا لأنه وصل إلى الصواب والتمس الحقيقة التي لا تعجب البعض، حيث كتب يومًا ما في أحد مقالاته: ((من جد وجد، ومن زرع حصد، ومع هذا لا تفقد عقلك إن وجدت في واقع الحياة أن الذي (حصد) غير الذي (زرع) وأن الذي (وجد) غير الذي (جد) فالدنيا بالوساطة، والآخرة بالأعمال)) صدق الدياب يرحمه الله، فكلامه فيه الكثير من الصحة والعقلانية، لأن هذه العبارة تنطبق على الكثير من البشر، فالوساطة تلعب دورها في صعود الشخص إلى القمم أو هبوطه إلى أسفل الدرك. فالدنيا ليست بخير، ولن تستقيم بالأسلوب (الواوي). فبعض البشر لا يعجبه تقدم الآخرين، ولا يهتم بما يقوله المرء ليس بسبب انحطاط فكره ولكن بسبب الحسد والكراهية التي توجد في معظم المجتمعات البشرية، وهناك البعض من الناس لا يريد هذا أو ذاك أن يظهر بصورة حسنة بل يريده دائمًا قزمًا وحقيرًا. وما بال صاحب رسالة التوابع والزوابع ابن شهيد الأندلسي إلا بسبب الحسد والحقد، فقد حسده البعض من أقرانه الذين ذهبوا إلى الناس يتشدقون عليه، ويحطون من شعره وأدبه وأخلاقه، حتى حبس من قبل الحاكم حينذاك ونكل به خير تنكيل، وكانت رسالة ابن شُهيد الأندلسي (التوابع والزوابع) ردًا على الذين حطوا من مكانته وقيمته الأدبية، وقد خلد التاريخ أدب وشعر ابن شُهيد الأندلسي وذهب بسخافة حاقديه إلى خانة النسيان. وكذلك ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع وصاحب المقدمة الشهيرة نال منه أقرانه وشككوا في كتابته وجعلوها من التفاهات ولكن شجاعة الرجل وقدومه إلى التأليف جعله عالمًا ذائع الصيت وانشغل بفكره وكتاباته العالم بأسره وأهمل العالم فكر حاسديه وانحطاطهم. وهذه الاعتراضات على مؤلفات وكتابات الآخرين تأتي أحيانًا ليس بسبب قلة جودة وقيمة المعروض أو المكتوب، ولكن تأتي بسبب الجهل أو الحسد أو بسبب الإفلاس الأدبي في النقد الصادق البناء. فبعض الناس شغوفون ومهتمون بتقزيم الآخرين، وهذا نابع من طابع البشر، وقد وضح هذا الشيء عالم الاجتماع علي الوردي في كتابه (مهزلة العقل البشري) حيث يقول: «والناس لا يحبون الشخص الذي يمدح نفسه. وهم مؤمنون بالمثل القائل: ((مادح نفسه كذاب)). فكثيرًا ما يمدح شخص نفسه وهو صادق فيما يقول، ولكن الناس ميالون إلى كراهيته والحطّ من قيمته ولو كان صادقاَ». وأنا أقف بجانب الوردي وأؤيده بكل قوة فيما يقول. فعندما لا يحتكم الإنسان إلى العقل والمنطق يصل إلى مرحلة مهزلة العقل من زمن ابن شهيد الأندلسي، وأبي العلاء المعري، وابن خلدون إلى زمننا هذا، والدنيا ليست بخير مادام هناك من لا يريد المبدع أن يبدع، ولا الكاتب أن يكتب، و لا المفكر أن يفكر، والسبب راجع إلى الحسد والبغضاء، فنحن البشر نستخدم عبارة «ما زالت الدنيا بخير» كمسكن يجعلنا لا نطعم واقعنا المر مرًا، بل تخدرنا هذه العبارة ولا تعالج واقعنا عندما نقولها، بل تزيد الطين بلة، ونتمادى في الصبر، ونقول ما زالت الدنيا بخير، والحقيقة أن الدنيا ليست بخير.