لعل الروايات السياسية من أكثر الأشكال الأدبية تأثيرًا في عملية تشكيل الرأي العام أو إثارته وتوجيهه تجاه قضايا الأمة وانشغالات الشعب، فتحويل الحوادث التي يمر بها بلدٍ ما من حالتها الواقعية إلى أحداث أدبية أو فنية من شأنه أن يتيح فرصًا لتمرير رسائل ذات بعد سياسي تحت غطاء أدبي أو درامي أو غير ذلك لتحقيق هدف وطني. وقد تكون هذه الرسائل موجّهة صراحةً إلى عموم الشعب لتحفيزه وبعث كوامنه الوطنية من أجل نصرة القضايا المتعلقة بمسائل السيادة أو تستهدف فئة معيّنة في المجتمع سواء عن طريق النقد الكاشف للتجاوزات في حق الصالح العام أو بوضع معالجات للعيوب والنقائص والممارسات الهدامة والمعرقلة لجهود بناء المجتمع، لكن هذا قد يعرّض المثقف العربي للقمع من طرف الأنظمة العربية البوليسية المستبدّة التي لا تقبل بالرأي المخالف، مما يضطر هذا المثقف إلى صيغ أخرى يعبّر بها عن أفكاره المعارضة للسلطة القائمة من خلال الإبداع كمثال الرواية، والحق أن الهاجس السياسي في الرواية كان محرّكا رئيسيًا في تطوّر الرواية العالمية وكان شاهدًا على حركة الشعوب وعلى واقعها، منها الأوضاع الراهنة التي تعيشها تونس وتداعياتها على المستوى الفكري والفني. فلأول مرة في تونس يُطرح موضوع السياسي في الرواية التونسية، بل ذهب إلى أكثر من ذلك بالجواب عن: هل مسّت السياسة كل أشكال الرواية التونسية؟ هل هناك فعلًا رواية خالية من السياسة أم أن غياب السياسة في الرواية هو في حد ذاته سياسة؟ هل مثّلت الترجمة محركًا للسياسة في الرواية؟ كيف تناولت الرواية التونسية الشأن السياسي الوطني؟ كل هذه الأسئلة وغيرها، مثّلت محور لقاء فكري انتظم بالعاصمة التونسية مؤخرًا، وأداره الكاتب الصحفي كمال الرياحي، وشهد حضور عدد من المهتمين بالشأن الأدبي من مثقفين وإعلاميين، وقد تم خلاله تقديم جملة من الشهادات، فكانت الانطلاقة مع تجربة الروائي والشاعر عبدالجبار العش محاولاً الإجابة على عدد هام من التساؤلات حول علاقة الرواية بالالتزام والحرية والواقع، وقد لخّص هذه التحولات التي تشهدها خارطة النص الروائي بقوله: “هل سنكتب مثلما كنّا نكتب”.. وهي مقولة لمحمود درويش تعكس مدى صلابة الجدار السميك الذي كان مفروضًا على الأصوات والأقلام الحرّة في ظلّ نظام ديكتاتوري كان يحارب الكلمة ويتصدى للنص الجريء الذي اخترق أسوار الصمت فكانت هناك نصوص لكتّاب غرّدوا خارج السرب السائد. ونشير في هذا المجال إلى المثل الذي استشهد به الكاتب عبدالجبار العش وهي رواية “وقائع المدينة الغريبة” وهي بانوراما عاكسة لواقع متشظٍّ يرسم شخوصًا وأحداثًا تتلاحق في إطار غرائبي ساخر يذكّرنا بكتابات ساراموغو والأدب المكتوب باللغة الإسبانية، وكما في هذا الأدب فإن رواية “وقائع المدينة الغريبة” ترسم بحرفية عالية من خلال التلميحات والإيحاءات عالما يجب ان ينهض على أنقاض عالم متداعٍ. معاناة اليساريين داخل سجون تونس أمّا شهادة الروائي الهادي ثابت، المعروف بأول المهتمين بالكتابة في مجال أدب الخيال العلمي في تونس، فكانت حول الصعوبات والعراقيل التي واجهها عند إصداره لرواية “اغتصاب”، حيث رفضت “دار سيريس” نشرها وترويجها على خلفية مضمونها السياسي، وهو ما جعله يلجأ في نهاية المطاف إلى دار نشر في القاهرة لتُنشر هناك، ويتم منعها في تونس. تُبرز هذه الرواية التي قال كاتبها إنها تلخيص لتفكيره السياسي معاناة اليساريين داخل سجون تونس ودهاليز وزارة الداخلية، حيث تكون البداية بعملية اغتصاب لتحطيم شخصية السياسي. أمّا الباحث والكاتب كمال الزغباني فقد أشار من خلال روايته “في انتظار الحياة.. في انتظار الثورة” إلى التعتيم والتهميش الممنهج والمعلن الذي لاقته هذه الرواية وهو ما يطرح سؤالاً عن كيفية تعاطي السلطة عمومًا مع النص المكتوب، ولعلنا نتساءل في هذا السياق: إلى أي حد تصل حدود الرقابة ومن يحدّد سقف الحرية؟.. وهل النص المكبّل هو بالضرورة نص خارج عن القانون؟ وما هي العلاقة بين الجمالية والالتزام؟. أمّا الكاتب محمد جايلي فقد حاول من خلال كتابه “الإيديولوجي في روايات تونسية معاصرة” الإجابة عن المعاني الحافة بهذا المبحث من خلال البحث في نصوص “وجهان لجثة واحدة” للكاتب الأزهر الصحراوي، وكمال الزغباني في روايته “في انتظار الحياة”، وسمير ساسي في روايته “برج الرومي” وغيرها من الكتابات الحرّة والجريئة في الآن نفسه. كما تناول محمد بن سالم فكرة الثورة في رواية “محاكمة كلب” لعبدالجباّر العشّ، ورواية “في انتظار الحياة” لكمال الزغباني. يقول بن سالم: جيل ظلّ منبوذًا مقصيًّا ومخصيًّا (يقصد جيل الروائيين التونسيين الجدد)، لكنه قاوم في صمت وعزلة ربما، ولكنه قاوم، قاوم لأنه ما فتئ يعبّر عن ذاته رغم الغلق والتكميم والإبعاد، إنه جيل شقيق للدولة الفتية، إمّا توأم أو أكبر قليلاً أو أصغر قليلاً، جيل تربّى على أغاني الشيخ إمام، وفيروز، ومارسال خليفة، وتعلّم على حسين مروّة، ومهدي عامل، وإدوارد سعيد، وتغنّى بجيفارا، وهوشي منه، وأكينو، وروزا لوكسمبورغ، جيل استبطن سبينوزا نيتشه وفوكو... فكان جيلاً “مجنونًا” ثائرًا على الموانع والحدود، جيلاً مسكونًا بحبّه للبلاد رغم القمع فأُوقف، وحوكم، وسُجن، وعُذّب وجُنّد، دون أن تنطفئ شعلة وفائه للمبادئ والأحلام وإن خبت أحيانًا. وختم الدكتور محمود طرشونة هذا اللقاء الفكري برصده لنظام الحكم في رواية “وقائع المدينة الغريبة”.. حاول فيها تفسير طبيعة الحكم في هذه المدينة الغريبة التي مرّت بمرحلتين من نظام الحكم، مرحلة ما قبل الانقلاب العسكري، ومرحلة الانقلاب العسكري الذي قامت به الجبهة الدينية. يقول الدكتور طرشونة: هذه الرواية من الروايات التونسية القليلة التي اهتمت بالشأن السياسي في تونس تخيّل فيها كاتبها عبدالجبّار العشّ منذ نهاية التسعينيات أحداثًا غرائبية في مرحلة أولى، وأخرى محتملة في مرحلة ثانية تنطلق من وسط الرواية تقريبًا فتغيّر وجهتها ولكنها لا تقطع مع أحداث المرحلة الأولى، بل تفسّر لغزها وتقدم حلاً بديلاً لوضع حدّ للمحنة العامة، فجاءت الرواية محمّلة بالأبعاد الرمزية الاجتماعية منها والسياسية، حيث تخيّل الكاتب عبر أحداثها ما يمكن أن يحدث داخل المجتمع التونسي إذا تسلّم السلطة أفراد يطالبون بتحكيم الشريعة الإسلامية، فهذه الرواية نالت جائزة “الكومار” الذهبي في إحدى الدورات السابقة لتمكّن صاحبها من الجمع بين الشكل والمضمون.