تعودنا أن نهرب دومًا خارج نطاق الزمان وحدود مكانه، لنقلب دفاتر الأيام صفحةً صفحة، ونقرأها سطرًا هنا ورسمًا هناك، فنتساءل هل ستذكرنا تلك السطور؟ أم أن الوجوه التي احتفظنا برسومها ستنكرنا؟ أم أن رحلة العمر تلك حطت رحالها عند أعتاب الذكرى.. والذكرى فقط. عندما يعتصر الحنين قلوبنا تهرول أخيلتنا إلى تلك الأمكنة المندسة بين تجاويف الماضي، تتسارع خطانا فوق طرقاتها المتعرجة الملتحفة بالتراب المعتق برائحة المطر، تمتد أيدينا إلى الفراغ نتحسس الرسم والصورة لنطرق الأبواب، وتدنو قلوبنا من الأسوار فتحلق بنا فوق ساحات أبجديات تفاصيلنا الأولى.. المنزل الأول والدرس الأول والبعثرة الأولى التي سمحنا لها أن تخلط كل تلك التفاصيل وكنا نحن فيها كما نحن. حين نريد أن نستجلب الراحة والأمان في زمن ضاق بنا وضقنا به، فلا خيار لنا إلا أن نقترب ثم نقترب من الصورة.. لنفتش عن مطارح نستنشق هواءها عبقًا وطيبًا وجدًا، ونبحث بين دروبها عن وجوه افتقدنا لقياها، نسمع وقع خطاهم، ويسترق سمعنا همسات أحاديثهم الطيبة، نناديهم بأسمائهم.. لم يجبنا أحد منهم! وحين تعود أخيلتنا أدراجها نكتشف أن الأيام ابتلعتنا في جوفها، ونجد أنفسنا في بقعة ليست منا ولسنا منها وأننا لم نعد في الزمان ولا المكان الذي ألفناه، عندها نستفيق على الحقيقة المرة التي لا نحب صورتها.. لنجد أن الوجوه ليست هي الوجوه، والدور اندثرت معالمها وانحسرت عند أطراف كرتنا الأرضية وتاه منا طريق ذاك الزمان في الحارات العتيقة. مرصد.. ليس مرصدًا هذه المرة.. بل هي السطور والصورة من ذاك الزمان في حاراتنا العتيقة.. استثارت في نفسي عذب الحنين المؤلم.