(1) في أحد البرامج الحوارية على القنوات الأمريكية كان الضيف الأكاديمي (والباحث الشهير في مجال اللغويات والسيميائيات الحديثة) يؤكد العلاقة الوطيدة بين الإنسان والمكان الذي يعيش فيه، إذ الإنسان وليد بيئته، وثمة علاقات ديالكتيكية ظاهرة بين الإنسان ومكانه، منتهيًا هذا اللقاء الشيق إلى آليات محددة للكشف عن هوية الإنسان بوساطة معبرة لنمط مسكنه، من خلال نماذج لتصاميم سكنية متنوعة. (2) .. تلك العلاقة بين (الإنسان ومسكنه) جعلتني أعود للتفكير في حال مبانينا، وتوافرها على لمحات من الفن المعماري الذي هو في الأصل «إبداع تكويني وزخرفي يزيد في تشخيص هوية المبنى ووظيفته» والذي من شأن وجوده في صميم البناء أن يعكس هوية صاحبه وثقافته، وبالمقابل فإن خلو تلك المباني من أثر ما لصياغة جمالية فنية، تنبثق عنها -بشرط الإبداع- رؤى خاصة من إنسان المكان، للكون والناس والحياة. (3) .. أذكر أنني عندما زرت صديقًا لي يسكن في مدينة بوستن الأمريكية ذهلت من حجم التكوينات الجمالية التي يحتويها مسكن صديقي من بلاد العم سام، والذي انتهت مهمة مهندسه المعماري -كما قال لي- عند تشييد جدران المنزل وأسقفه، ليستلم (هو) بعده مهمة اختيار شكل الرخام والتقاطعات الزخرفية، ووضعية الأيقونات، وأسرار الألوان وانبثاقات الألوان السرية.. ليأخذني بجولة على المكان، يعرفني بالدلالات الدينية لوضع ثلاث أيقونات متعامدة من أعلى في كل جدران الغرفة الرئيسة للبناء، ودلالات العلامتين الرخاميتين المتداخلتين من المنتصف في كل جدران غرفة المعيشة (الصالون)، والتي أراد من خلالها الإيحاء بأن استقرار هذا المسكن ونجاح وسلامة أعضائه يتوقف على مدى الانسجام والترابط بينه وبين زوجته، وعندما رأيت -بعد ذلك- غرفة مكتبه الخاصة تعج باللونين الأزرق والأحمر الداكن على الأطراف، عرفت أنه من أنصار الفريق الكتالوني الشهير، ولا شك أنني لم أتفاجأ بتلك اللوحات التشكيلية السوريالية لسلفادور دالي وغوستاف ميرو وآيرنست، وأنا أعلم أن لصاحبي ممارسات مدهشة في كتابة النص النثري الرمزي في أقصى تجلياته لدى أندريه بروتون. وعندما عدنا للجلوس مرة أخرى سألته مباشرة: «وهل أن لهذا كله مثيلًا لدى الذين يعرفهم من سكان المدينة الطوبية العريقة».. قال لي: «وهل يعقل يا صاحبي أن يسكن الإنسان في مكان بلا معنى؟» أجبته نافيا (بلا تردد لأول الأمر)، ولكن بعد أن هبت علي فجأة أطياف مدننا الحبيبة (سحبت) النفي المؤكد من داخلي لتكون إجابتي النهائية لسؤاله الإنكاري «ممكن.. أن يكون ذلك.. فنحن نسكن في بيوت لا معنى لها غير المعنى الوظيفي النفعي للسكن! لأن الغايات الجمالية للبناء مجردة تماما من المعنى والرؤية والدلالة»! (4) .. (صحيح) أن بيوتنا تتوافر على أثمن مواد البناء وأرقى أنواع الدهانات وكل تصاميم الرخام وتشكيلات لا تعد وتحصى من الأحجار والسيراميك، ومساحات شاسعة للغرف والصالونات، وأحدث التقنيات للمسابح والحمامات، وأشكال ثمينة للتحف وقطع الأثاث والإضاءة.. ولكن.. كل ذلك بلا معنى.. بلا معنى على الإطلاق. نسلم راياتنا للمقاول الأجنبي والمعماري الوافد منذ البداية وحتى آخر نافذة! بل اننا في أحايين كثيرة ندع لعامل اليومية من العمالة السائبة الرخيصة أن يختار تصاميم وحداتنا السكنية فيما يتعلق بمواد البناء أو لون الدهانات أو أشكال التكوينات الرخامية. وبالتالي فإن مؤشر خبرة عالم اللغويات -الذي يكشف عن شخصية الإنسان من خلال ملامح مسكنه- سيظل يتقافز باضطراب هائل ذات اليمين وذات الشمال بلا جدوى، في اللحظة التي يتجه فيها مؤشره البحثي إلى بيئتنا المعمارية.. لأن ليس ثمة شيء في فضاءاتنا العمرانية يعكس هوية ساكنيها وسمات شخصياتهم، ليس لأننا بلا هوية إيجابية دائما.. ولكن لأننا استمرأنا إخفاء شخصياتنا الحقيقية أمام السياجات الحديدية الصلدة التي صنعناها بأنفسنا! (5) وعندما يحاول أحد ما تصنيف ما نعمله في مبانينا السكنية ضمن اتجاهات المعرفة والفنون، فإنه سيفشل في إيجاد علاقة تربط أنماط مساكننا بتلك الاتجاهات.. لأنها بلا معنى ولا تعدو إلا أن تكون «سمك.. لبن.. تمر هندي»!.. فهل يمكن بالفعل تصنيف معمارنا ضمن القوالب الكلاسيكية العريقة أم نجد له طيفًا رومانسيًا معلقًا على الشرفات؟ أو نقتنع بالمذهب الواقعي لينسجم مع كرهنا للخيالات الشاردة؟ أما الاتجاهات الرمزية فلا أظن أن لنا علاقة بها من قريب أو بعيد.. فنحن عالم (الدوغري) فحسب! ثم إن اتجاهات الحداثة تعاركنا معها منذ زمن الغذامي والسريحي والثبيتي على ضفاف ساحلنا الغربي.. وبالتأكيد فليس ثمة محاولة لولوج زمن ما بعد الحداثة.. يعني أننا حالة مستعصية.. تتأبى على التصنيفات المعرفية والاتجاهات الثقافية...! (6) عندما نغادر هذه الحياة فإن أجيالنا القادمة لن تجد إجابة مقنعة ومشرفة عن أي سؤال مقاصدي، وهم يجولون بخواطرهم في مساكننا التالدة.. كسؤال أحدهم: «لماذا جاء السقف الرخامي في البيت على هذا النحو؟! ولماذا كانت أغلب نوافذنا يعلوها قوس أسمنتي..؟! وهل لاختيار شكل (كيشاني) بعض الجدران دلالة ما..؟! الجواب.. لا جواب! (7) .. هل كان لهذا البياض/ الموات في فضاءاتنا العمرانية علاقة بحياتنا الجديدة.. على اعتبار أن ثمة هوية للبناء كانت موجودة بالفعل لدى إنساننا الأول.. هوية تومئ بدلالات وإيحاءات وقيم شتى.. ولذلك اختلف طراز البناء الحجازي عن بيوت نجد.. واختلف صيغة البناءات الحجرية الجنوبية عن المساكن الدافئة بجوار الجبلين أجا وسلمى على سبيل المثال.. أم أن لهذا الفقر الجمالي الدلالي علاقة بثقافة ما لا تحتفي بتلك الإرهاصات المفعمة بأشواق الإنسان وتطلعاته وعذاباته؟! (8) .. هل لأحد منكم -في نهاية الأمر- أن يخبرني عن رموز معمارية دالة في ثقافتنا العربية الإسلامية.. غير تلك المآذن العظيمة التي تطاول عنان سماءاتنا معبرة عن السمو والتطلع إلى العالم العلوي المقدس.. وغير تلك القباب المألوفة التي كانت حجر زاوية الجمال في مساجدنا الإسلامية الجليلة، والتي ترمز إلى العناية الإلهية التي تتنزل علينا بركاتها من علاه، لنكون مشمولين بحفظ الله ورعايته، عز جاهه وعظم سلطانه.. هل ثمة تكوينات أخرى غير المئذنة والقبة في فنون عمارتنا؟.. سنبحث سويًا.. وعلى دروب الجمال نلتقي.