في التكوين السياسي الحديث يوجد نوعان من المؤسسات: المؤسسات الوسيطة والمؤسسات الكبرى أو الشمولية. الصنف الأول يشتمل على الأسرة والقبيلة والعشيرة والعلاقات التراحمية وغير ذلك من الأفكار التقليدية والفطرية التي نشأ الإنسان منذ فجر تاريخه على تبنيها والاعتداد بها وباتت تعتبر في العصر الحديث بمرتبة الوسيط بين الإنسان أو الفرد والدولة، أما القسم الثاني فيشتمل على مؤسسات الدولة ببساطة، وذلك بالنظر إلى كون المؤسسات والقطاعات الحكومية هي ذات امتداد شمولي وبيروقراطي وما يدعم من قوتها أنها ذات سلطة عسكرية مباشرة وذات شرعية مطلقة للتحكم في الأفراد. المتابع لواقع التحولات العربية الراهنة وعصر الثورات الكبرى في بلاد العرب سيلحظ أن القطاعات الحكومية سيطرت على الأفراد بصورة تامة، ولكن بنفس الوقت نلاحظ أن المؤسسات الوسيطة لم تندثر ولم يتم تدميرها تماما بل هي العكس ربما احتفظت بقوة كامنة غير فعالة ولكن ذات استعداد قوي للفعل والتغيير. هذا الاستعداد تم الإبقاء عليه عمدا من قبل القطاع الشمولي في المؤسسات الكبرى ذات السلطات الكاملة، فعلى الخلاف من التجربة الغربية التي مسحت الطاولة تماما أمام الأسرة والعشيرة والقبيلة وحولت المجتمع بأسره إلى ذراري صغرى ومشتتة، مما أثر سلبا على البنية الأخلاقية والإنسانية في تلك المجتمعات، فإننا بالمقابل نلفي المجتمع العربي قد ارتكز على نمطين من المؤسسات تم ذكرهما في صدر المقالة، هذان النمطان تم تلفيقهما معا وبصورة غريبة وممعنة في الشذوذ، فلم يتم تبني الطرح القديم القائل بأولوية المؤسسة الوسيطة (الأسرة والقبيلة والعشيرة وأولو الرحم) وتفضيلهم على ما سواهم وبالتالي نكون قد عدنا إلى المجتمع الجاهلي حيث التكوين الأصلي والأولي للفكر العربي، ولم نكن -أيضا- قد اتجهنا نحو المؤسسة العامة طبقا للتصور الغربي حينما تم إمحاء الأسرة بشكل شبه كامل ولم يبق منها سوى الاسم، بل ما حصل كان شديد الغرابة والتناقض. ما حصل هو أن القطاع العام تم التلاعب به لمصالح فئوية ضيقة، مصالح أسرية وعشائرية وعنصرية غير معلنة، فما كان معلنا هو رفع شعار الدولة الحديثة (لا سيما في الجمهوريات الثورية) وأحيانا الشعار الديني كنقيض للجمهورية الثورية، في الحالتين يتم تصوير الدولة على أنها تعيش في القرن الحادي والعشرين، مظاهرها الخارجية توحي بذلك وبنيانها مشيد على أحدث طراز وإعلامها يلمع الصورة على أكمل وجه، ولكن من الداخل وفي العمق، تتبنى هذه المؤسسات العامة سلوكا مغايرا لما يتم الإعلان عنه، وهذا السلوك لا يوجد مواطن عربي لم يعان منه ومن ويلاته، حيث الإجحاف بالحقوق وتغليب شريحة اجتماعية على أخرى ونبذ الجنس الآخر وتفضيل البشر بعضهم على بعض بغير كفاءاتهم واستحقاقاتهم. هذا الطرح « التلفيقي « كما أحب تسميته دوماً، استطاع أن يعيش عقودا طويلة دون أن تنكشف تناقضاته وذلك بالنظر لانشغال العالم كله بالسياقات السياسية الكبرى العالمية والبعيدة نوعا ما عن جوف المنطقة الملتهب والمصاب بالأمراض الأزلية، وما أن تحطم الصراع الثنائي بين القوتين السوفييتية والأمريكية وبروز هذه الأخيرة كعرابة وحيدة للسياسة الدولية حتى برزت التناقضات واندفعت نحو نهايتها المنطقية، لم تكن هذه النهاية سوى « الصراع «! لقد فشل التحالف بين ما هو وسيط وما هو عام، وانفصم عقد الزواج بين العشيرة والسياسة عندما ثارت الأولى على الثانية وانفضّ الحلف بين أتباع العشائر وأتباع الكراسي، فالثورة الليبية مدعومة من القوى القبلية وقد هدد سيف الإسلام بوجود حرب قبائل لو رحل أبوه عن الكرسي ولكن ما حصل هو انقلاب القبائل عليه وتوحدهم ضده، والأمر نفسه يقع في سوريا واليمن. هذا الانقلاب لا يجب فهمه بطريقة مجتزأة ومختصرة وإنما يفترض أن يتم دمجه ضمن سياق أعمق وهو تهافت التركيبة السياسية العربية المعاصرة وانقضاء أجلها عبر انهيار أنموذجها التلفيقي الواضح في ليبيا واليمن وسوريا حالياً، فلم يعد بالإمكان المزاوجة بصورة شاذة بين العصرين الجاهلي والحداثي، وليس بالمستطاع أن تتكئ الدولة المعاصرة على عكازتي القبيلة والمؤسسة، لقد تمت تربية القبائل على أنها الذراع الأيمن للدولة ولكن هذه الذراع القوية صفعت صاحبها، وما يحصل حاليا هو تدمير القبيلة للطغيان المؤسسي والحكومي في البلدان الثائرة، هذا التدمير له أسبابه الإنسانية الوجيهة ولكنه بالأساس ناتج عن التناقض المريع المشار إليه أعلاه. ولنا أن نسأل أنفسنا سؤالا نختتم به هذه المقالة القصيرة: هل سيؤدي انتصار القبيلة إلى مفارقة جديدة وهي بناء الدولة الحديثة والعصرية على أنقاض الاستبداد البوليسي الغاشم في الدول المذكورة، وذلك عبر اصطناع عقد اجتماعي جديد يجمع بين القبائل التي توحدت تحت حلف حروب الكرامة ضد الطغيان والاستبداد العسكري؟! هذا ما لا نستطيع الإجابة عليه الآن، فنحن نعرف القبيلة جيدا لكننا لا نعرف « المستقبل « الخاص بدولنا العربية التي لا زالت تخوض في دوامة الدولة والأسرة، كما لا يمكن استباق الأحداث والحكم على هذه التجمعات القبلية الثورية بأنها مجرد عصبية جاهلية، فهي قد اختارت السلم في البدء ولكنها اضطرت مكرهة إلى الحرب ورفع سارية القتال. [email protected]