الحياة لا تعطينا إلاّ بمقدار ما نعطيها. ولا تحرمنا إلاّ بمقدار ما نحرم أنفسنا فيها . وما نزرعه نحصده..وما نبذله لابد أن يعود علينا .فالحياة ببساطة هي مرآة تنعكس عليها أعمالنا وترتد عليها أصداء أقوالنا. فلا يمكن لزارع بصل أن يحصد ورداً!.. ولا يمكن لناقم حاقد يسعى بالغيبة والنميمة أن يتمتع بالحب والولاء ودفء المشاعر الجميلة. هذه هي الحقائق الحياة..وردودها على ما نفعله فيها ..ويعبرّ عن ذلك قصة أحد الحكماء حين خرج مع ابنه إلى أحد الوديان العميقة تحيط به جبال شاهقة وأثناء سيرهما تعثر الطفل في مشيته وسقط على ركبتيه فصاح متألما: (آاه) فإذ به يسمع من أقصى الوادي من يصيح مثله (آاه). تملّكت الدهشة الطفل حتى نسي ألمه وهو يركّز على الصوت ومصدره..فقال بصوت مرتفع : (من أنت؟..) فأتاه الجواب مكرّراً سؤاله: ( من أنت؟) انزعج الطفل من الرّد الذي حمله على الغضب والتحدي فصاح بانفعال: بل أنا من أسألك من أنت؟.. فجاءه الرّد بنفس الجفاء والحدّة والغضب: مكرراً قوله.. فازداد غضب الطفل وصاح : (أنت جبان.). فجاءه الرّد من جنس عمله وقوله.. وبالقوة نفسها (أنت جبان) كان الأب يراقب الأحداث في صمت بينما الطفل يشعر بالغيظ والتحدي حتى التفت إلى أبيه وعيناه تحملان تساؤلات عكّرها الغضب. فقال الأب بصوت عال : إني احترمك... فكان الرّد بالمثل.. ونبرة الصوت قد زال منها الغضب واكتست بنفس الوقار والهدوء الذي تحدّث بهما الأب. وأمام دهشة الابن أكمل الأب مساجلته قائلاً:. (أنت رائع.). فلم يقلّ الرّد عن تكرار ما قاله.. فازدادت دهشة الطفل ولم يعِ سبب تحوّل طريقة الرّد فسأل والده الذي قال له.. (أي بني ..ما حدث لا يتعدى ما نسميه في علم الفيزياء (بالصدى) وما الصدى سوى ظاهرة طبيعية..لكنها أيضا تشبه الحياة بعينها..فما تقدّمه تحصل عليه.. وما تزرعه تحصده .وما تفعله تجد نتائجه).. كثير منا في هذه الحياة.. ينسى هذا القانون الواقعي.. ويعتقد أن الحياة ستكافئه على ما لم يفعله أو تعاقبه على ما أحسن فيه.. وقد يقول قائل: لكنني قدّمت إحسانا وحصدت نكرانا..وزرعت خيراً فجنيت شراً وسوءاً.. والحياة لا تعطي بالمثل.. فأقول له أن شعوراً كهذا انتابني كثيراً في حياتي.. في كل موقف أحسنت فيه إلى أحد.. وبذرت فيه معروفا في أرض أحد.. فوجدت جزاء عملي السوء والنكران فاحتل الغم والهم مساحات قلبي ..حتى أتاني يوماً حكيم شكوت له حالي .. فقال لي : ماذا يفعل المزارع قبل أن يزرع؟.. فلم أحر جواباً.. فأكمل قائلاً : انه يختبر التربة إن كانت صالحة أم غير صالحة.. وأنت يا بنيتي غاب عنك أن تختبري التربة ..فزرعت معروفاً في أرض بور.. وغرست ورداً في صحراء لا تنبت إلاّ شوكاً . عندئذ اكتملت لدي حكمة الحياة. وعرفت متى يكون قانون صدى الحياة عاملاً ..ومتى لا يكون..