· في الوقت الذي تنشغل فيه كل أطياف المجتمع السعودي بقضيتها القديمة الجديدة ( قيادة المرأة للسيارة ) ، حيث تقف كل فرقة على إحدى ضفتي إجابة السؤال السعودي المكرور: (تسوق ولاّ ما تسوق ) على طريقة السؤال الشكسبيري الشهير ( تكون أو لا تكون) .. يأتي هذا الخبر الجديد في تفاصيله وتوقيته ، القديم في مضمونه .. فنقلاً عن (سبق) تم ضبط وافد عربيّ يعمل بائعاً في أحد المحلات النسائية - التي مازلنا نصر على عدم جواز وقوف النساء بها - وبحوزته طلاسم سحرية، وصور ، يقوم بعرضها على زبائنه من النساء. · أرجو أن لا تنشغل عزيزي القارئ بمحاولة إيجاد العلاقة بين السحر و الصور ، عن عمق دلالات وإرهاصات الخبر ، كما انشغلنا جميعاً بقضية قيادة المرأة .. تلك المعضلة التي كان من الممكن حلها بطريقة سهلة و حضارية ، لو كنا نملك - كمجتمع- ثقافة الأولويات، وثقافة الاستفتاء والتصويت ، وثقافة احترام رأي الأغلبية .. لننهي جدلاً مضحكاً حول العفريت الذي حضّرناه؛ و لم نستطع تصريفه .. فأشغلنا عن قضايا أكثر أهمية وأشد إلحاحا بالنسبة للمرأة نفسها ، كالبطالة والعنوسة والعضل وتهميش الحقوق والتحرش كما ورد في الخبر أعلاه . · هذا الزخم الإعلامي الكبير لقضية قيادة المرأة والذي تقوده أكاديميات وإعلاميات مترفات يثبت أننا قوم نهوى الانشغال بالهوامش عن المتون ، وبالشكل عن المضمون .. وبالمُترف عن المهمّش والمطحون .. فإذا كانت قيادة السيارة حقل مسلوبا من المرأة فانه ليس الحق الوحيد ولا الأهم .. فالمرأة التي نطالب لها برخصة لقيادة السيارة ، لا تملك بالأساس رخصة لقيادة حياتها و شؤونها الخاصة ، لأنها في نظر البعض مواطن غير جدير بالثقة، وناقص الأهلية !. · قبل أيامٍ ، دخلتُ أحد المحلات الصغيرة المختصة ببيع المرطبات والمياه الغازية .. وبعد أن اخذ أبنائي بعض الحاجيات، بحثت عن صاحب المحل لدفع قيمة مشترياتي ، فلم أجده .. هممت بإعادة ما اشتريت ، لكن صوتا خفيضاً جاء من الخارج لفت انتباهي .. كان الصوت لامرأة تقف – بكامل حشمتها- على بعد أمتار من المحل .. و رغم معرفتي بالإجابة مسبقاً إلا إن الفضول وتقدّم سن المرأة شجعاني على سؤالها عن سبب وقوفها بهذا الشكل الغريب، فأجابت بأنها أرملة تتناوب مع ابنها - التلميذ - البيع في المحل الذي ورثته عن زوجها .. ولأنها لا تستطيع ( قيادة ) محلها ، ولا حتى الوقوف فيه بحسب الأوامر والتعليمات ، فإنها تلجأ للوقوف أمامه بهذا الشكل ( المزري) رغم انه حلالها وحلال أبنائها الأيتام ، ومصدر رزقهم الوحيد !. · قيادة المرأة للسيارة قضية مهمة.. لكنها تظل في فقه الأولويات قضية ثانوية بالنظر إلى مصيبة تلك المرأة وأمثالها من الأغلبية الصامتة اللائي عُضلن عن (قيادة) وتدبير شؤون معيشتهن .. الأمر الذي يحتاج تضافر الجهود لرفع الظلم عنهن، و الوقوف بوجه الذين يتخذون من الدين ذريعة لعدم إخراج المرأة من تحت وصايتهم مهما كانت ظروفها ومهما بلغت حاجتها . · قيمة الأشياء تكمن في مدى الحاجة إليها .. فتراب شبر من الشاطئ يُعدّ في نظر الغريق أثمن من كل ذهب الأرض .. فلا تهمشوا قضايا و حوائج الضعفاء بتضخيم قضايا المترفين . [email protected]