يوم السبت 11/6/1432ه ختمت مع إخوة كرام قراءة صحيح البخاري، بعد ان ختمنا من قبل موطأ الإمام مالك، والغاية أن نحيي سنة كادت ان تندثر، وهي تلقي حديث رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بالسند بدءاً من حاضرنا ووصولاً الى جامع الصحيح الامام الفذ الحافظ محمد بن اسماعيل البخاري، الذي يصلنا عبر سنده لكل حديث اخرجه في صحيحه الى قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- او فعله او اقراره، وهذه عادة لعلماء مكة الذين كانت حلقات درسهم في الحرم المكي الشريف تقرأ كتب الحديث كلها بنفس الطريقة، واخص منها كتب السنة، ويكون يوم الختم مشهوداً، تستقرأ فيه سيرة الامام الحافظ الذي جمع سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وبعضاً من سيرته، ثم يتلوه دعاء بعد خير ذكر على وجه الدنيا اخذ من فم سيدي رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وقد امضينا في قراءة الجامع الصحيح للامام البخاري أربعة وثلاثين مجلسا بدأناها في 18ربيع الآخر 1431ه ،وختمنا في يوم السبت المشار اليه آنفاً، والإمام الحافظ أبو عبدالله محمد بن اسماعيل بن ابراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَه البخاري الجعفي، عَلَم من أعلام الأئمة الحفاظ العالمين العاملين، سيرته عطرة، ظهر نبوغه مبكراً، يقول رحمه الله: أُلهمت حفظ الحديث وأنا في الكُتَّاب وعمري عشر سنين، ولما خرج من الكُتَّاب وعمره إحدى عشرة سنة يختلف إلى حلقات درس الحديث، فقال شيخه في ما يقرأ للناس: سفيان عن ابن الزبير عن ابراهيم، قال لشيخه: إن أبا الزبير لم يرو عن ابراهيم، فانتهره الشيخ لصغر سنه، لكنه اصر وقال: ارجع الى الاصل ان كان عندك، فدخل الشيخ ونظر فيه ثم رجع فقال للبخاري: صدقت، قال الامام البخاري: (فلما طعنت في الثامنة عشرة حفظت كتاب ابن المبارك، وعرفت كلام هؤلاء يعني اصحاب الرأي، والف اول كتبه وهو في هذه السن (الثامنة عشرة) وتعددت رحلاته لطلب الحديث في سائر بلاد الاسلام انذاك الى الحجاز والعراق ومصر، وقوة حفظه هبة من الله، فقد كان يختلف وهو غلام مع اقران له الى مشايخ البصرة، فيكتبون ولا يكتب، فلما اكثروا عليه ان يكتب وألحوا، قال لهم: اعرضوا عليّ ما كتبتم، فلما عرضوه فاذا هو خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها عليهم عن ظهر قلب، فأخذوا كما يقول أحدهم: يحكمون ما كتبوا من حفظه، وهو يقول: حفظت مائة ألف حديث صحيح، ومائة ألف حديث غير صحيح، وقد اختار كتابه الصحيح من ستمائة ألف حديث، ولما قدم بغداد عمد أصحاب الحديث إلى مائة حديث فقلبوا أسانيدها فأعطوا الحديث سند حديث آخر، وكلفوا منهم عشرة يعرض كل منهم عشرة أحاديث مقلوبة السند عليه حديثاً حديثاً، فلما عرضوها عليه قال عند عرض كل حديث منها: لا أعرفه، فلما أتموا عرض المائة، تلاها عليهم، وأعاد سند كل حديث إليه، فسلموا بقوة حفظه وتقدمه عليهم، ولما أتم الإمام البخاري كتابة جامعه الصحيح وقد أمضى في كتابته ست عشرة سنة، عرضه على أعيان المحدثين كعلي بن المديني والإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين فشهدوا له بالصحة، فلم يختلفوا معه إلا على أربعة أحاديث كان قوله فيها هو الأرجح، وكان صبره في طلب العلم لا حدود له، يستيقظ في الليلة خمس عشرة الى خمس وعشرين مرة لينظر في ما كتب من أحاديث، ثم يعود إلى نومه، وأما عبادته وحسن تعامله مع الخلق فهو الطريق الممهد الذي يقتدي به، وأما صبره على الأذى في سبيل العلم والدعوة فحدث ولا حرج، اتهمه شيخه محمد بن يحيى الذهلي بأنه يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، وهاج عليه العامة، فخرج من نيسابور ليطفئ الفتنة، فلما استقر به المقام في بلده بخارى بعث إليه أميرها خالد بن علي الذهلي، طالباً منه أن يحمل إليه الكتاب الجامع الصحيح، وكتاب التاريخ ليسمعه منه، فلما رد عليه الإمام: أنه لا يذل العلم، ولا يحمله إلى أبواب الناس، وقال: إن كان لك إلى شيء منه حاجة فاحضر مسجدي أو في داري، فإن لم يعجبك هذا فإنك سلطان فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة، لأني لا أكتم العلم لقول رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (من سُئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار) فكان هذا سبب الوحشة بينهما، فخرج الإمام إلى فربر وبيكند على فرسخين من سمرقند، ثم ذهب ليزور بعض أقاربه في قرية خَرْتَنْك، وسمع بالليل يدعو (اللهم قد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت فأقبضني إليك) فما تم له شهر حتى توفى، وكان صبره على الأذى مضرب الأمثال، لم يتراجع عن موقفه الذي لخصه بقوله: (القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة)، فلما قيل له إن فلانا يكفرك لم يزد على أن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما، ولما قال له بعض أصحابه: ان بعض الناس يقع فيك لم يزد أن قال (إن كيد الشيطان كان ضعيفاً) وتلا (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله)، وقال له أحدهم: ألا تدعو على هؤلاء الذين يظلمونك ويتناولونك ويبهتونك قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اصبروا حتى تلقوني على الحوض)، وهكذا صبر على الأذى، وبقي علماً في دنيا العلم والدين وهذه صورة من صور صبر العلماء حين تعرضهم للأذى، وهم أهل الصبر والشكر رحمهم الله.. ولعلنا بهم نقتدي فهو ما نرجو والله ولي التوفيق. عبدالله فراج الشريف ص ب 35485 جدة 21488 فاكس 6407043 [email protected]