إن الصداقة التي جمعت الأديب الراحل عبداللّه عبدالجبّار ومحمّد حافظ تكشف عن الوجه الإنساني الكبير للراحل، صداقة نمت بمحض الصدفة حين خرج عبدالجبّار من الجامعة والتحق بشركة تهامة، ليغدو من ثم سائقه الخاص، ومدبّر شؤون حياته كلها، وملازما له حتى وفاته.. تفاصيل ذلك في ما رواه حافظ ل”الأربعاء” مستهلاً برسم صورة لبداية هذه العلاقة قائلاً: كانت بدايتي علاقتي به عندما كنت أعمل في العلاقات العامة بشركة تهامة، وكان مديرها في تلك الفترة محمّد سعيد طيب وبعدها أصبح رئيسًا للشركة، وكان عبدالله عبدالجبّار وقتها مستشارًا في جامعة الملك عبدالعزيز، وبعد خروجه من الجامعة بطلبه عرض عليه محمّد سعيد طيب العمل كمستشار في شركة تهامة، وكلفني محمّد سعيد طيب أن أتقابل مع عبدالجبّار وأتعرف على طريقة نقله إلى شركة تهامة، وكلفني كذلك بإيجاد سكن له، ومن هنا بدأت العلاقة. استقالة نبيلة ويضيف حافظ: أتذكر أول مرة ذهبت لمقابلته استقبلني استقبال الأبطال، وكأنه يعرفني منذ سنوات، وكنت وقتها شابًا في العشرينيات، فقابلني برحابة وكأنني من كبار الأدباء، وقام بعمل الشاهي لي بنفسه.. ومن هنا بدأت العلاقة حيث بدأت تأثيث منزله، وكان محمّد سعيد طيب حريصًا على أن يتم تأثيث هذه الشقة بأفخم الأثاث، وكان عبدالجبّار رجلاً زاهدًا لا يحب البهرجة، كانت الشقة في حي الجامعة خلف مسجد الأمير متعب، وسكن عبدالجبّار فترة في هذا المنزل وهو يعمل مستشارًا في شركة تهامة، وتولى إدارة النشر فيها لعدة سنوات.. وكان المستشار وهو من يجيز الكتب في تهامة، فكان يجيز كل الكتب، ولقد قويت علاقتي به بعد أن مشى في جنازة والدي لمسافة طويلة رغم أنه كان لديه آلام كبيرة في رجله، وقد واساني كثيرًا، مما قوّى العلاقة بيننا بشكل كبير؛ حيث كنت أذهب إلى منزله عندما يأتي إليه ضيوف وأقدم له الأكل، وبعدها تم تعيني سائقًا له من قبل شركة تهامة، وكان عبدالجبّار كريمًا، فعندما يحضر أي انسان لديه فإنه يكرمه إكرامًا كبيرًا وخصوصًا من الأدباء المصريين أو السعوديين الذين كانوا يتهافتون إلى منزله. ويمضي حافظ في ذكريات علاقته بعبدالجبّار مضيفًا: استمرت العلاقة حتى استقال من تهامة؛ حيث أحس عبدالجبّار أن النشر في تهامة قلّ فأراد أن يبتعد لكي لا يكون سببًا في الخسارة لتهامة، فانسحب بكل هدوء، وبعد استقالته من تهامة رفض البقاء في الشقة المؤجرة له، وكان قد قدم طلبًا من أجل الحصول على فيلا في سكن الأمير فواز، وطلب مني أن أراجع لأعرف إمكانية حصوله على الفيلا، وذهبت واستعلمت عن الفيلا، وتم تجهيزها له، وبدأنا في عمل مكتبته ونقل كتبه لها، فعاش في فلل الأمير فواز بمفرده مع الكتب.. وكنت أخاف عليه كثيرًا لأنه الوحيد الساكن في هذه الفلل مما جعلني أزوره بشكل يومي رغم بعد منزلي الذي كان في حي الكندرة. أدباء في السبتية ويواصل حافظ بقوله: بعدها أصبح يجمع الأدباء والمفكّرين في لقاء أسبوعي كل سبت واسماه “السبتية”، وكان كثير من الأدباء يحضرون إليه ومن هؤلاء الدكتور محمّد الزبير مدير جامعة الملك عبدالعزيز سابقًا، والاستاذ أحمد محمّد علي مدير البنك الإسلامي، وكذلك الأديب المصري والدكتور علي شلش، وعبدالفتاح أبومدين، ومحمّد سعيد بابعير، والدكتور أنور عشقي، وإبراهيم العنقري، والدكتور عبدالعزيز الخويطر، وجعفر اللبني، والدكتور عاصم حمدان، ومحمّد سعيد طيب، وقد كان يتحرك الحديث للضيوف في السبتية، وكان قليل الحديث ويترك الحرية للجميع للحديث عن أي موضوع. هذه السبتية لم تنقطع إلا بعد انتقاله من جدة إلى مكة قبل حوالي ست سنوات، وسبب انتقاله إلى مكة هو خوف أهله عليه حيث أصبح جلوسه في جدة لوحده فيه خطر عليه؛ فقد يسقط أو لا يستطيع الذهاب إلى المطبخ أو دورة المياه، فخافوا عليه، وطلبوا منه الذهاب إلى مكة والسكن مع أخته التي توفيت قبل حوالي أربع سنوات يرحمها الله. وبعد وفاة أخته استمر في السكن مع بنت أخته، وكان يستقبل في منزل بنت أخته أصحابه وتلاميذه وضيوفه، فكان من الأشخاص الذين يترددون لزيارته في مكة كلٌّ من أحمد زكي يماني، ومحمّد عبده يماني، وعبدالفتّاح أبومدين، وأمين فودة، وعبدالله فرّاج الشريف، وفاروق بنجر، وحسين الغريبي، والدكتور أسامة فلالي، ومحمّد سعيد طيب، وحسين بافقيه، وكان يفرح بأي شخص يزوره. المكتبة النواة وينتقل حافظ بالحديث كاشفًا عن سبب تخلّى عبدالجبّار عن مكتبته الأولى ومصير مكتبته الحالية قائلاً: رغم حبه وعشقه للكتاب إلا إنه قدّم مكتبته الأولى عندما كان في مصر إهداءً لجامعة الملك عبدالعزيز عندما كانت جامعة أهلية، وكانت هذه المكتبة نواة لتأسيس المكتبة الكبرى بالجامعة، وقد أرسل الكتب من مصر لأنه كان يقيم بها في تلك الفترة.. أما المكتبة الحالية فيتجاوز عدد محتوياتها 12 ألف كتاب، وتحتوي على كل المواضيع، وكانت مكتبته مفتوحة للجميع قبل وفاته -يرحمه الله- حيث يرتادها طلاب الماجستير والدكتوراه للاستفادة منها، وكان كريمًا مع من يحضر للمكتبة ويستعير الكتب دون الاهتمام بعودة الكتاب، فكان يعير الكتب لأشخاص لا يعرفهم، وكانت مكتبته شاملة لكل أنواع الكتب. عاشق الكتاب وعن برنامج عبدالجبّار اليومي ومؤلفاته يمضي حافظ قائلاً: عبدالجبّار لم يكن ينام الليل، ففي سكنه في مشروع الأمير فواز كانت جلسته واحدة مع الكتاب ينام ويصحو على الكتاب، ولا يغادر صالونه الأدبي لأكثر من 15 سنة، ومن بعد العصر يجلس ليقرأ الصحف، وكان همّه قراءة الكتب، وكان يحب الأكلات الشعبية المكية كالسليق والمطبق والبنيه وحلاوة الهريسة.. أما عن مؤلفاته فله العديد من الكتب منها التيارات الأدبية في الشعر والنثر، وكتاب الشياطين الخرس وهو عبارة عن مسرحية، ومسرحية العم سحتوت، وكتاب الغزو الفكري، وأحد المسرحيات تم تمثيلها في الإذاعة السعودية، ومجموعته أشرف عليها محمّد سعيد طيب، وعبدالله فراج الشريف، ومعالي الشيخ أحمد زكي يماني. قصة شيك الملايين الخمسة ويؤكد حافظ قصة رفض عبدالجبّار صرف شيك من الملك فهد - يرحمه الله- بمبلغ 5 ملايين ريال بقوله: نعم هذه الواقعة صحيحة، وأنا شاهدت هذا الشيك معه، وقد كتب عن هذا الشيك الكاتب أحمد العرفج في ملحق الأربعاء الأسبوعي، وكان سبب رفضه لصرف الشيك بأنه لا يحتاجه في تلك الفترة ولم يصرفه، ولا أعرف مصير الشيك بعد ذلك رغم أنه كان مستور الحال ولا يتجاوز دخله الشهري 3 آلاف ريال فيذهب نصفها للسائق، وكان راتبه لا يكفي حتى منتصف الشهر؛ فقد طلب مني في أحد الأيام أن اشتري له دولابًا حتى يضع فيه الكتب على أن يرد لي قيمته في آخر الشهر. القدوة والمثال لقد استفدت منه الكثير؛ فقد كان -يرحمه الله- مدرسة تعلمت منه العفة والزهد، إذ لم يكن يغتاب أحدًا، ولا يحقد على شخص،لقد استفدت منه كثيرًا أكثر مما استفاد هو مني؛ حتى إن ابنائي استفادوا كذلك من علمه وأدبه، وكان يعتبر أولادي مثل أحفاده، فكان يهديهم الكتب ويكلفهم بالبحوث. وأكثر ما كنت أتعجب له أنه لم يكن مهتمًا بالظهور ولا يحب أن يتم مدحه، وكم من المرات حاولوا تكريمه ولكنه يرفض، لذلك لم يحضر الملتقيات الثقافية في نادي جدة الادبي واثنينية خوجة وغيرها، لكنه كان يقوم بزيارة معارض الكتب كثيرًا. وعكتان قبل الرحيل ويكشف حافظ عن بعض عبدالجبّار مع المرض قبل رحيله قائلاً: لقد تعرض الأستاذ عبدالجبّار خلال حياته لوعكتين؛ الأولى في العيون حيث أصيب بالمياه البيضاء في عينه، وبعد إجراء العملية كان يحتاج إلى فترة نقاهة وأسكنته في منزلي القريب من مستشفى العيون، وكان مدير المستشفى يأتي إلى منزلي للكشف عليه تقديرًا لهذا الرجل العظيم، اما الوعكة الثانية فكانت عندما ذهب لمستشفى الدكتور عبدالرحمن بخش وكان بخش مهتمًا كثيرًا بعبدالجبّار ويعامله معاملة رائعة، وقد أصابه في اخر عمره الوهن والضعف حيث بلغ من العمر 96 سنة.