يدين البحث والدرس الأدبي في أدب الجزيرة، والأدب السعودي على وجه التحديد، بالكثير الكثير لنتاج الأستاذ الكبير الناقد عبدالله عبدالجبّار. ذلك النتاج الذي يعد باكورة النقد منهجي المعمد على الدراسة المسحية الكلية للمدارس والتيارات الفنية الأدبية.. إن المطّلع على ثقافة هذا العلم الكبير، ليعجب أيّما إعجاب من تلك السمة الشمولية لمسحة الثقافة التي يتكئ عليها الأستاذ الكبير عبدالله عبدالجبّار. ويزداد إعجابه عقب قياس ما وصل إليه من اطلاع، وما أنجزه من دراسات في وقت قلّت في الإمكانيات، وشحّت مصادر الاطّلاع ووسائل المعرفة. فهو يحدثك عن العادات والتقاليد بما يشتمل عليه من تنوّع في الجزيرة العربية، كما يحدثك بعمق عن المذاهب الأدبية الحديثة، وفق أصولها المعرفية الغربية. ويحدثك عن الشعر، لا بوصفه ثقافة تخص النخب المثقفة، بل بوصفه ذيوعًا اجتماعيًّا، فيمهد حديثه عن الشعر الفصيح بالحديث عن الشعر العامي، والحلمنتيشي. وأرسى دعائم نتائجه البحثية على خلفيات قرائية مدهشة قياسًا بالوقت الذي كان فيه يقدم تلك الدراسات.. فقدم المذاهب الأدبية من خلال حديثه عن (الواقعية المتفائلة)، و(الواقعية المتشائمة) من خلال آراء كبار النقاد الغرب.. كما طرحها (إنجلز)، و(جورج طومسون)، وكما هي لدى (جوركي)، و(رالف فوكس)، و(آهرنبورغ)، و(كومجو)... وغيرهم.. في الوقت نفسه لم يكن بالمتعالي على الطبيعة السيسيولوجية لمجتمع الجزيرة من خلال معرفته بقوائم بأهم قبائل الجزيرة العربية، والعادات والتقاليد، حتّى في أدق تفاصيلها المنطلقة من اللباس، والأكل، والمشرب. ويذهب في تقصيه البحثي، لا على الطريقة الاستعراضية لكم معارفه، فتحس بانفصال الجوانب النظرية لديه عن التطبيقية، وإنّما بإمعانه في تتبع حالات (ما نصطلح له اليوم في مصطلحنا النقدي بالتناص) بين شعراء الجزيرة العربية، وغيرهم من الشعراء العرب، والشعراء الأوروبيين، مقدمًا ذلك من خلال النصوص الشعرية. وليست مبالغة أن نقول إن معظم ما توصل إليه الناقد والأديب الكبير الأستاذ عبدالله عبدالجبّار من نتائج وتقسيمات لم يزد عليها الباحثون المتأخرون كثيرًا.. فلئن قسم المدارس الأدبية والشعرية على وجه التحديد إلى (كلاسيكية، ورومانسية، وواقعية، ورمزية). إنني حقيقة لأقدم أسمى آيات الإعجاب بثقافة علمنا الفذ، وأنا أتخيّل ما أمكن لرجل بسن الآباء والأجداد أن يكون قد اختزله من معارف، من نوعية معرفة، يقصر عن الاطّلاع على كثير منها من أبناء جيلنا الحالي. ذلك على الرغم من فارق الإمكانيات الهائلة، بين جيل حفر ثقافته على طبعات الكتب الحجرية، والمخطوطات، وجيل تنسكب المعلومة بين يديه بضغطة زر يسيرة على جهاز كمبيوتر.. وأختم تحيتي المتواضعة هذه، بتخيّل ما كان يعانيه رجل بحجم ونوع ثقافته من غربة في محيطه.. رجل قبل سبعين سنة يتحدث عن ملارميه، وجوركي، وبلوك، وبيتس... وغيرهم.. هو ذات الرجل الذي كان حتى أواخر حياته، حريصًا على الاطّلاع على تنامي الحركة الثقافية، وما استجد بها من أسماء، وتيارات أدبية.. رحم الله العَلَم الفَذ، وأسكنه فسيح جناته.