المتأمل في كتاب بنية التخلف لإبراهيم البليهي، تتضح له ثنائية هامّة يناقشها في مجمل مقالاته، وهي ثنائية النقص والاكتمال فالأصل عنده في الإنسان النقص أما الاكتمال فهو مطلب لا يتحقق إلا بالاعتراف بالنقص والشعور به ثمّ مواجهته والصراع معه حتى يتحول من سلب إلى إيجاب. فالجهل مثلا معادل نقص لكنه أصل في الإنسان أما المعرفة فهي معادل اكتمال لكنها لا تتحقق سوى بمدى الاعتراف بمستوى الجهل الموجود في الإنسان. ومن هذا المنطلق احتاج الإنسان إلى علم الجهل ليدرك من خلاله مكامن القصور التي فيه ويتخلص من عجزه عن اكتشاف ذاته فيسعى إلى تجاوزهما وصولا إلى أنساق الاكتمال. الانقياد الأعمى (الإمّعة) مثل آخر على النقص، إذ هو طبيعة سائدة في النفس البشرية. أما النضج والوعي (معادل الاكتمال) فلا يتحققان سوى بالصراع المرير مع حماقاته وأهوائه من اجل الوصول إلى الحق والحقيقة. وأبرز دليل على هذا الانقياد الأعمى هو حماقة الشعب الألماني في انقياده الأعمى لهتلر على الرغم من المستوى العلمي الرفيع الذي يتميزون به، ولا يخفى على أحد ما حصل من كوارث ومآسٍ للبشرية ولألمانيا نفسها بسبب هذا الانقياد الأعمى. إن علماء النفس وعلماء الاجتماع وفلاسفة التاريخ يلتقون جميعا على حماقة السلوك البشري وقابليته للانقياد الأعمى. ولكي يصل الإنسان إلى استقلاليته في الحياة بجميع أشكالها أي بلوغه معادل الاكتمال عليه أن يتمثل نقص الآخرين وحماقاتهم ليدرك مكامن نقصه فيسعى إلى تجاوزها. ومثال آخر لمعادل النقص هو قداسة وهيمنة العادات والتقاليد، حيث ينزلق فيها التفكير انزلاقا لا شعوريا فتتجه بمرونة العقل البشري في الغالب إلى الانحدار وتصبح القوة الكامنة حين يقرر الإنسان أي نوع من السلوك ينبغي أن يسلك وحين يحكم على أنواع السلوك بالخير والشر، وأما التحرر من ربقة هذه التقاليد والانعتاق من قداستها بوصفها معادل اكتمال لا يتم إلا عبر إدراك الإنسان حقيقة قيمة هذه التقاليد ومدى صلاحيتها للحياة وكم دمرت قداسة الإنسان للتقاليد حياة الأفراد والمجتمعات. ومثال آخر لمعادل النقص تابوه الأحكام المسبقة على الأشخاص والأفكار والأشياء والمواقف انطلاقا من حالات الرضاء والسخط والحياة مليئة بمثل هذه الأحكام وقديما قال الشاعر عين الرضاء عن كل عيب كليلة وعين السوء تبدي المساوئ فالإنسان يستحسن من نفسه كل فعل ويستطيب من ذاته كل رأي ويبرر لهواه كل مطلب فلا يرى التحيز الذي تتسم به أحكامه ولا يبصر الجور الذي تصطبغ به أحكامه. وأما الموضوعية (معادل الاكتمال) تحتاج إلى مجاهدة النفس في معرفة ذاتها كما جاء في الأثر “رحم الله امرءًا عرف قدر نفسه” والاعتراف بأن الصواب والخطأ سلوك لا يسلم منه إنسان. إن إحياء جذوة الموضوعية يتطلب وعيا حادا كما يتطلب جهدا استثنائيا. ويتضح لنا من خلال الأمثلة السابقة إن الإنسان على مستوى الفرد والجماعة محكوم بقبضة هذه الثنائية (النقص والاكتمال) ولا يمكن تحقيق الطرف الإيجابي من حياة الإنسان (الاكتمال) ما لم يدرك الإنسان الطرف السلبي الكامن فيه (النقص) وكل أخطاء الإنسان وكوارثه على نفسه وعلى بيئته سببها الرئيس هيمنة معادل النقص. هذه القاعدة المؤلمة تطرد في كل مجالات الحياة. والنتيجة النهائية هي انتصار معادل النقص على حساب معادل الاكتمال، والسؤال الذي يطرح نفسه هو إذا كانت هذه المعادلة مهيمنة على حياة الناس عبر التاريخ القريب والبعيد، فماذا نسمي التطور العظيم الذي تشهده الإنسانية اليوم؟ في اعتقادي إنها مساحة الاكتمال التي سمح لها معادل النقص بعد صراع الإنسان الشديد معه من خلال عقول أدركت ووعت فحوى هذه الثنائية وولدت مثل هذا التوازن في الحياة. إن النقص الكامن في الإنسان طريق لتوليد الاكتمال والاكتمال قائم على الاعتراف بوجود النقص ولا مجال في الحياة خارج هذه الدائرة المدهشة.