· أكثر ما يستهويني في السفر - بعد الطبيعة و التاريخ - دراسة ثقافات الشعوب وطبائعها، وعقد المقارنات والمقاربات بينها وبين مجتمعاتنا العربية .. أزعم إني سافرت كثيراً ، وقرأت كثيراً .. ولم أجد مجتمعاً يخلو من الطبقية بشكل كامل .. لكنني بالمقابل لابد أن اعترف لشعوبنا العربية بالريادة والتفوق في هذا المجال.. فالطبقية القبلية التي تقوم على إسقاط وتهميش الآخر، سر من أسرار العربي ، وركن ركين من شخصيته ،منذ يوم غضبة (ابن كلثوم) الجاهلية الذي قال فيه: (ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطينا) وحتى أيام ( مهايط ) شعراء الفضائيات. · والمؤسف أن ذلك البيت الجاهليّ المُحرّض على الطبقية والعنصرية والقبلية في آن معاً ، الذي حفظته الأجيال العربية قولاً وعملاً.. قد أُجبرنا على حفظه نحن أيضاً ، بأمر من وزارة التربية ، فهو نموذج – بحسب المقرر- للفخر والفكر العربي الذي يجب أن نكون عليه .. لم يقل لنا أساتذتنا حينها كيف يمكن لنا أن نشرب جميعاً صافي الماء إن وردنا في وقت واحد ، دون أن نقتتل ؟!.. ولماذا يجب على البعض أن يشرب كدراً وطينا؟! .. وما الذي يمنع أن يجلس الجميع على ضفاف الماء ليتحاوروا و يتفاوضوا كي يشربوا جميعاً ماءً صافيًا ؟.. بل عززوا هذا المفهوم في أذهاننا ببيت انتحاريّ آخر ينبذ صدره الوسطية، و يقر عجزه بأن « لنا الصدر دون العالمين أو القبر «!. · كل مجتمعات الدنيا - حتى أعرق الديموقراطيات - لديها ضرب من ضروب الطبقية ، لكنها طبقية محتشمة، اقرب ما تكون إلى التدرج الاجتماعي الطبيعي القائم على فوارق اقتصادية أو وظيفية وليس على نعرات قبلية أو مذهبية أو نظرة استعلائية .. لذا فالجميع هناك متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات ، ولهم جميعا الحق ذاته في ورود منابع الخدمات والامتيازات، والارتواء منها دون تمييز أو تفرقة، ودون أن يشرب احد كدراً أو طيناً . · و حتى لا نظلم العربي لابد من القول إن افتقاره للديموقراطية، أدى إلى استمرار ولائه للقبيلة أو الطائفة التي قدمت له هذا الضمان .. الأمر الذي أدى إلى تحول المواطنة في نظره من سعة الاندماج والمشاركة في برامج وطنية شاملة ، إلى ضيق التنافس الطائفي .. وهذا ما يمكن ملاحظته بوضوح في أية انتخابات، حين تجده يصوّت إلى جانب طائفته أو قبيلته طمعا في تحويلها إلى أكثرية لا تضمن له شرب الماء صافياً فحسب، بل وتحوّل الآخرين إلى أقليات لا حق لهم في المشاركة و اقتسام المغانم. · لا تقف خطورة هذه الغريزة الطبقية الجاهلية عند حدود تشظيتها للجهود الوطنية، ونظرتها الدونية للآخرين .. بل تتعدى ذلك إلى تقديمها الدعم والحماية لأفرادها للتفاخر بكسر القوانين .. فلا بأس أن يرتكب احدهم خطأً ، أو أن يؤذي الآخرين .. لكن البأس كله في أن يكسر غيرهم القانون ضدهم .. لأن هذا يعني أنهم أصبحوا ممن يشربون كدرا .. لذا تحرص كل طائفة على أن يكون من بين أفرادها مسئول كبير، تكسر به القانون ، وتتخطى به رقاب الناس !. · المضحك أن العربي المنغمس في كؤوس الطبقية حتى الثمالة و بعد أن ( تعولم ) وتلفع بثياب التقدم والتحضر .. استبدل شرب الماء بعصير ( الطبقات ) المثلج .. لكنه لازال صامداً ومصراً على موقفه بان لا يشرب الآخرون إلا كدراً وطينا. [email protected]