“تجديد الدين” ماذا يعني، وما مفهومه، وما ضوابطه وآلياته ومعاييره، ومن المنوط به، وهل “التجديد” يعني الابتداع في الدين، وإحداث ما ليس فيه، ولماذا ينظر إلى عملية “التجديد في الدين” من قبل البعض بمنظور الريبة والشك، وسوء الظن في من يرفعون لواء التجديد مقابل الجمود؟! هذه الأسئلة وغيرها حاول الدكتور محمد جميل المصطفى الإجابة عنها في دراسته العلمية الشرعية، التي صدرت في كتابه “تجديد الدين مفهومه.. وضوابطه وآلياته”، الذي جاء في قرابة الأربعمائة صفحة ويقع في أربعة فصول تبدأ بتعريف التجديد وحكمه ودواعيه وأهميته، ثم أركان التجديد وضوابطه ومجالاته وعوائقه، وتختتم بالحديث عن الآليات السياسية في الإصلاح وتعاون العلماء والحكام، والعمل على تحكيم شرع الله، وتوحيد الأمة، مرورًا بالحديث عن صفات المجدد ومهمته وآثار التجديد، وآلياته الدعوية والفكرية والمنهجية. قوة الدين التجديد.. ماذا يعني؟! يحاول المؤلف تعريف التجديد لغة واصطلاحًا، فهو لغة يعني “تغيير الشيء عما آل إليه”، أما اصطلاحًا فإن التجديد وردت بشأنه عدة تعاريف فهو “إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة، والأمر بمقتضاها”، وما قاله المودودي فإنه “تنقية الدين من كل جزء من أجزاء الجاهلية، ثم العمل على إحيائه خالصًا محضًا”، ولكن الدكتور يوسف القرضاوي يعرف تجديد الدين بأنه “هو محاولة العودة به إلى ما كان عليه يوم نشأته”. وبغض النظر عن التعاريف المتعددة للمعنى اصطلاحًا فإن المقصود بتجديد الدين “المحافظة على أصل الدين، وتخليصه من البدع والمحدثات، وإحياء الدين وبعث الروح فيه، وربط الدين بالواقع”. الشرعية.. والمشروعية ثم يتناول الدكتور محمد جميل المصطفى قضية “مشروعية تجديد الدين” ويحشد الأدلة من الكتاب والسنة على ما يثبت مشروعية الأمر، ومنها ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”، وحديث “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك”. فمشروعية تجديد الدين تنبثق من عدة أمور وهي: أن هذا الدين باق على مر العصور والدهور، وأن الدين يمر بفترات مد وجزر، وقوة وضعف، وامتداد وانحسار، وأن في التجديد تحفيز للمسلمين أن يكون فيهم المجددون ليعيدوا لهذا الدين بهاءه وحيويته، وينفضوا عنه غبار النسيان والتجاهل والخرافات والبدع، وأن يجدد كل مستطيع التجديد في المجال الذي يحسن. حكم التجديد ويتساءل المؤلف هل التجديد واجب عيني أم كفائي؟ ويجيب عن هذا السؤال بقوله: من الظاهر أن الوجوب يتوجه إلى من عنده المقدرة على ذلك وهم العلماء والحكام، ومن كان على علم بالقضية، أم العامي فلا يمكنه القيام بتجديد الدين لأنه قد يأمر بمنكر، ومن ثم فحكم التجديد مثل حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي أنه واجب على الكفاية! ويشدد على أن تجديد الدين ضرورة تقتضيها طبيعة هذا الدين وخصائصه لعدة أسباب منها: أولًا: كي يظل الدين قائمًا يؤدي دوره، لأن الحياة متطورة. ثانيًا: للحفاظ على معالم الحق والهدي حتى لا تنطمس فلا يعرفها أحد، أو تضيع بين ركام التراث الاجتهادي، وما فيه من صواب أو خطأ. ثالثًا: كي يؤدي الدين دورًا في إقامة التوازن بين مطالب الجسد، ومطالب الروح، وبين العمل للدين والعمل للآخرة. دواعٍ خارجية أما عن دواعي التجديد الخارجية فيحصرها الكاتب في عدة أمور منها: اختلاف الإفهام، فقد يفهم عالم من الدليل ما لا يفهمه عالم آخر، كذلك اختلاف المدركات العقلية بسبب اختلاف المعطيات فإن الحقائق الاجتهادية لا تظهر للعقل دفعة واحدة، بل قد تتجلى مع التطبيق، ومع الزمن، وقد يظهر لجيل لاحق ما لم يظهر للسابق. إضافة إلى اختلاف الأعراف والتقاليد، واختلاف الأزمان، وحالة المسلمين من ضعف وقوة، فما يطالب من الناس في وقت السلم لا يطالبون به في وقت الحرب، وكذلك العكس، فمن المعروف أن الحدود لا تقام في حالة الحرب خشية التحاق المسلم بالكفار، إضافة إلى الضغوط الخارجية من الدول الغربية بسبب أحداث 11 سبتمبر، وما سبقها وما تبعها وما ترتب عليها، وما يثار من انتقادات المستشرقين، وقد كان كثير من الدول توجه انتقادات إلى الدولة العثمانية بأنه لا يوجد لديها قانون مدني يحتكم إليه الناس، فاستدعى ذلك القيام بوضع مجلة الأحكام العدلية التي تعتبر بمثابة قانون مدني. فالضغوط الخارجية إذا كانت تتعلق بأساسيات الدين وأركان الإسلام والإيمان، فلا يجوز اعتبارها، لأنه لما عرض المشركون على رسول الله أن يعبدوا الله سنة، ويعبد آلهتهم اللات والعزى سنة، نزل الحكم القاطع بتحريم المساومة أو التنازل في ذلك. وإذا كانت الضغوط الخارجية تتعلق بمحاسن الإسلام والمصالح والمفاسد، فلا حرج من مراعاتها إذا كانت تحقق مصلحة وتدفع مفسدة، وقد راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الضغوط من ذلك عدم قتله للمنافقين، كذلك ترك صلى الله عليه وسلم تغيير بناء الكعبة خشبة كلام الناس وما يترتب عليه من مفاسد، وتنازل صلى الله عليه وسلم عن بعض مستحبات العبادة، لما ترتبت عليها بعض المفاسد، فإنه كان يجهر بصلاته بالليل وكان بعض المشركين يسب القرآن عند سماعه، ونهى عن سب آلهة المشركين لما كان التعرض لآلهتهم بسوء سببًا في شتم المشركين لله تعالى. استنكار ورفض ويقول الكاتب إن بعض الغيورين يستنكرون كلمة (تجديد الدين) ويقولون: إن الدين قد اكتمل، وليس بحاجة إلى تجديد، لأن هذا يفتح المجال لأعداء الإسلام، أن يدخلوا من هذا الباب؛ لإفساد الدين، ويقول هؤلاء الغيورون: ينبغي العدول عن كلمة تجديد الدين إلى إضافة التجديد إلى شيء له صلة بالدين؛ فيقال: تجديد أمر الدين، أو تجديد الفكر الديني، كما فعل محمد إقبال أو تجديد الفكر الإسلامي كما فعل د. عدنان إمامة، في بحثه للدكتوراه، أو تجديد الخطاب الإسلامي كما فعل د. عبدالكريم بكار، أما الدين ذاته فلا تجديد له! كما أن لفظ “التجديد” عام يشمل: الزيادة في نصوص الدين أو النسخ منها، ويشمل تجديد فهم النصوص بما يتوافق مع الواقع، ويشمل إعادة التذكير بمعاني النصوص وإحياء العمل بها، أما الزيادة في النصوص والنسخ منها، فهذا لم يقل به أحد؛ لأن مصدر الدين الوحي، وقد انقطع الوحي بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلم يبق إلا المعنيان الآخران، وهما تجديد الفهم على ضوء الواقع، وإحياء هذه النصوص بالتذكير بها والحث على العمل بها. ولا ننسى أن لفظ (تجديد الدين) أعم وأشمل من (تجديد الفكر) لأن تجديد الفكر يقتصر على التنظير العقلي، ولا يشير إلى إحياء النصوص ونشرها والعمل بها، وكذلك لفظ (تجديد الدين) أعم وأشمل من (تجديد الخطاب الإسلامي) لأن تجديد الخطاب، يوحي بالاقتصار على طريقة إيصال المعلومات إلى الناس، أما تجديد الدين فيشمل جميع ما يمت للدين بصلة، وقد ارتضى هذا اللفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا حرج في استعماله. مستقبل الأمة ويؤكد الكاتب أن تجديد الدين له أهمية عظمى في مستقبل الأمة في الدنيا والآخرة فهو يعيدها إلى دائرة العبودية الحقيقية لله تعالى، وإلى رضوانه، ويهيئها لدخول الجنة، ويحقق لها العزة في الدنيا والآخرة؛ أما العزة في الدنيا، فلأن الله تعالى تعهد بنصر من ينصره، ويطبق دينه، فقال: “ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور”. ويعيد للأمة الإسلامية ريادة الأمم والصدارة بينها، والشهادة عليها؛ بسبب ما تحمله من مبادئ الإسلام العادلة والسامية، ويحقق لها الرخاء الاقتصادي؛ لأن الله تعالى وعد من أقام شرعه؛ أن يفتح عليهم بركات السماء والأرض فقال: “ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذنهم بما كانوا يكسبون”. كذلك يحقق الأمن النفسي والاجتماعي للأمة، ويعطيهم الثقة بنصر الله، ويساعد على تمحيص تراث الأمة الاجتهادي حتى تأخذ النافع منه ونترك ما ثبت خطؤه أو عدم صلاحيته فالتجديد يحقق تصحيح فهم تشريع الأحكام، ويعيد الناس للالتزام بالكتاب والسنة. أركان وضوابط ويحدد الكاتب أركان تجديد الدين في: المحافظة على أصل الدين، وتخليصه من البدع والمحدثات، وإحياء ما اندرس من السنة والآداب والأخلاق الإسلامية، وبث الروح في تعاليم الدين، وربطه بواقع الحياة، وإثبات جدارة الإسلام بالحكم وصحة مبادئه وأهميتها. أما عن ضوابط التجديد كما أوردها المؤلف فهي: الالتزام بالكتاب والسنة، وبالمقاصد العامة للشريعة، واستيعاب النصوص الشرعية حتى تفهم في ضوء بعضها، والاطلاع على اجتهادات السلف في النصوص، لأنها تعطي أضواء كاشفة يستأنس بها في فهم النصوص، واستيعاب الواقع ومتطلباته حتى يمكن تنزيل النصوص عليه، والاستفادة من الحقائق العلمية الثابتة وعدم مناقضتها، واتباع الطرق المنهجية في البحث والعمل. ويفرق المؤلف بين التجديد والتقليد والتغريب، فالتجديد حيوية وفعالية وحفاظ على الأصل والجوهر ومسايرة النمو، أما التقليد فهو جمود على التراث الاجتهادي وجعله أصلًا لا يجوز الخروج عليه، فالتقليد أصالة مزيفة تخفي وراءها عجزًا وقصورًا عن فهم الواقع والتعامل معه، وأما التغريب فهو قبول ثقافة الغرب بخيرها وشرها سواء في النواحي الفكرية أو الدنيوية أو الاجتماعية.