“إقبال خجول على الانتخابات البلدية ...” هذه الصيغة، وبتنوعات عديدة، يمكن أن نقرأها في كثير من الصحف، للدلالة على حالة الفتور والشك والجهل بالديمقراطية وآلياتها، وبالصندوق وأسراره.. الصندوق الانتخابي ليس منتجًا استهلاكيًّا يمكن استيراده، مجردًا من تاريخه الطويل والشاق، لحل المشكلات في إدارة المجتمعات.. ليس سيارة، أو جهاز كمبيوتر، أو ما شابه، ولكنّه تراكم طويل من التجارب والمعارف والصراعات والحروب، والتي كرسته في النهاية وسيلة وحيدة لتنظيم الفوضى. نحن وإن عبرنا (ونعبر) من ذات النفق الطويل الذي عبره غيرنا، إلاّ أنّنا لم نفتح أعيننا على النور في نهاية النفق إلاّ مؤخّرًا، ولذلك سيحدث لنا ما يحدث لمن عُزل في الظلام لسنوات طويلة.. نخرج ليغشانا النور عوضًا عن الظلام. سيكون علينا أن نجتاز الوقت اللازم للرؤية بكامل قدرتنا البصرية.. كانت عدتنا اللمس، والحدس، وكثيرًا من الاتكال على الغيب، كان لنا عصا نتوكأ عليها، وصوت يتوزّع بين الصراخ والتحذير والتلغيز، يهشنا لكي لا نقع في المحذور.. لكن الزمن تغيّر: أصبحنا في زمن ال(HD) وال(3D).. أصبحت العين هي مصدر المعرفة، وطوق النجاة، وأصبح العالم كله في مرمى بصرنا.. ثم ماذا بعد؟ سيكون على الابن أن يكون مختلفًا عن أبيه، وسيكون على الأخ أن يكون على طرف نقيض مع أخيه، وسيكون على ابن القبيلة ألا يعرف قبيلته إلاّ في بطاقة الأحوال.. سيكون على الفرد أن ينسى أصله وفصله وعشيرته الأقربين، وينتمي إلى ذاته فقط. لكن هذه الذات، التي ستتضخم يومًا بعد يوم، ستحتاج إلى من يخبرها أنها ذات من ذوات، وفكرة من أفكار، وصورة من صور لا نهائية بطول العالم وعرضه، وليس هناك من وسيلة سوى الاقتراع.. ستظل ذاتًا مشوّهة ومسمومة ومتورمة، يمكن لها أن تقترف الكثير من الحماقات والخطايا، ما لم تقترع لفكرة، لمبدأ، لمشروع.. من هنا قد تعلّمنا الانتخابات (إن تخلّصت من كونها مساحيق لتجميل الصورة) ما لم نتعلمه في كتب التاريخ وفي المدارس والجامعات.. تعلّمنا كيف أن الأفكار تولد لتنمو تحت الشمس، لا لتختنق في الأقبية الضيقة والرطبة، أو تنفجر في وجه سائح أجنبي. نعم، سنكون خجولين في البداية، ولكنّنا، آخر الأمر، سنكون جريئين بما فيه الكفاية لأن نتحدث بألسنتنا.. أن ننتزع أصواتنا من الذين تكلّموا بالنيابة عنّا طيلة هذه القرون !!