قد يجود الزمن بشخصيات لا تنسى ولا تمحوها أو لا تمحى من ذاكرتنا كلما مرت الأيام.. وقد تمثل لنا ليس علاقة عمل أو زمالة أو أستاذية فحسب، بل تمثل الاقتراب النفسي والصداقة الحقيقية.. وقد يفرضون عليك احترامهم وأدبهم وأخلاقهم وكرمهم.. وعندما تفقدهم بفعل الأقدار.. ولكل أجل كتاب.. تحزن كثيرًا.. وقد لا يفارقك الحزن وقتًا طويلًا وأنت حزين على فراقهم.. لإنهم يمثلون منعطفًا مهمًا في حياتك أو مسيرتك. وما ذكر في هذه المقدمة ينطبق على أستاذنا محمد صادق دياب.. الذي كان يمثل عاطفة ومحبة لجيل يحبه وقدوة يراها الكثير من الشباب أو ممن عملوا معه شيئا مقدر ومثال محترم على الإنسانية والتعامل مع شخص محمد صادق رحمه الله. عندما جئت إلى جريدة “المدينة” قبل سنوات مضت رأيت هذا الإنسان الذي يأتي إلى مكتبه الأدباء والمفكرين.. والكثير من الناس من مختلف المهن.. وقد قابلته قبل انتقالي من عكاظ إلى “المدينة” وهو في سلك التعليم ولم أكن أعرفه شخصيًا لكنه كان بشوشًا لمن يعرفه أو لا يعرفه.. لكن قابلت الكثير من الاساتذة والزملاء في حقل الصحافة وزاملتهم وبعضهم لازالت الذاكرة تذكره.. والبعض الآخر قد ولى منها.. وهذا الرجل رحمه الله لازلت احتفظ في نفسي بتقديره للإنسان الذي يعمل معه وتعامله الجميل.. وكان المشرف العام على الملحق الاسبوعي “الأربعاء”.. أي أنه هو الرئيس لنا في أسرة “الأربعاء”. وللحقيقة كانت أيام جميلة قضيناها مع أبي غنوة رحمه الله.. جاء خبر وفاته رحمه الله وأنا لست في جدة حيث إنني لم استطع أن اكتب أي شيء الأسبوعين الماضيين لأني كنت في غاية الحزن على استاذنا محمد دياب رحمه الله.. لأن الذاكرة كانت تسترجع كل شيء جميل والذكريات الرائعة معه في تلك الأيام عندما كان حيًا يرزق ولم استطع كتابة أي شيء والمشكلة أنك عندما تحب إنسانًا ويفارق الدنيا لا نستطيع كتابة أي شيء سوى الصمت والوجوم والبكاء وهذا ما حصل معي بالفعل. أتذكر عندما كان يأتي في المساء وكان يسلم على الجميع وكان يبادلنا الطرافة وفي الظهيرة كيف يكون منهمكًا في الإشراف على مواد الأسبوع.. عندما كان يغيب منا أحد يوم أو يومين يسأل عنا وعندما تحضر بعد الغياب يعاتبك بكلمته المعهودة “فينك يا رجل” ويقولها مبتسمًا.. كان قريبًا حتى في مشاكلنا الخاصة.. كان قائدًا حقيقيًا واستاذًا يقف معك كلما سمحت له إمكانياته، تعلمنا منه التواضع والمعاملة وكل شيء جميل، كان يشجعنا ويخلق التنافس الجميل بيننا. ذات مساء جئت إليه وقلت له أريد أن أقدم صفحة أسبوعية معك يا أستاذ.. فأجاب باحترام وتقدير “طيب حاضر وأنت تستحق”. وبرغم أن جلوسنا في مكتبه والحديث معه قليل إلا أن صفاء قلبه ومحبته واضحة منذ أول يوم رأيته فيه، وذات مساء جاء وأنا أجلس على المكتب وكعادته يردد عندها كيفك يا فلان أي باسم الشخص ويكون مبتسما.. وفي تلك الليلة رديت عليه التحية وكنت في حالة من التفكير وجاء لي وقال ما بك؟ تكلمت معه قليلا وقال لا عليك وفاجأني بقوله لماذا لا تكتب هذا الاسبوع زاوية ثلاث رسائل في الصفحة الأخيرة.. نظرت إليه مبتسما وقلت يا أستاذ هذه يكتبها النخبة والكبار.. كيف أفعل ذلك.. قال لي بكلمة لا أنساها “أنت لا تقل عنهم” ومضى. كان لا يجامل في العمل أي أحد.. كان مشجعًا حقيقيًا يدفعك إلى الثقة بنفسك.. كان في أي مناسبة يدعونا إليها.. سواء كانت اجتماعية أو عامة.. كان رحمه الله لا يرتاح إلا عندما نكون موجودين في المكان الذي هو فيه.. وقد علق عليه ذات مرة أحد الحضور وقال له “ما شاء الله أولادك معاك”.. يقصدنا نحن.. فقال له ضاحكًا رحمه الله “والنعم فيهم”. كان يُشعرك بالقرب حتى إنه عندما يطلب منك أن تقوم بعمل تفعل بارتياح لأنه كان يستحق. من المواقف الجميلة في أحد المهرجانات التي كانت تضم الأسرة الصحفية والفنية والاعلامية وكنا قد حضرنا وهو في مقدمتنا -رحمه الله- وكانت قبل الفقرات الغنائية والفكاهية تُقدم الألوان الشعبية ومنها المزمار وكنت واقفًا بجانبه فقال لي إيش رأيك هيا بنا نلعب.. قلت له يا أستاذ هذه العصي قصيرة كيف ألعب بها فرد عليّ ضاحكا: قلي إنك غشيم.. فعاد وقال لي بذكائه المعهود وقال هل تريد أن تتفرج عليّ وأنا ألعب.. قلت يا ريت يا أستاذ وانا صادق في قولي.. فنزل إلى الميدان وكان بارعًا في أداء اللون وكنت أتفرج على أدائه وأصفق له بحرارة. كثير من الأشياء الجميلة التي جمعتنا به وقد كنا قريبين منه جدًا ولا تشعر أننا غرباء عنه رحمه الله ولا هو أيضًا. وحزنت مرات خلال حياته وهي عندما جئت ذات مساء إلى الجريدة كالمعتاد وأخبروني إنه انتقل رئيسًا لتحرير مجلة الجديدة التي تصدر عن جريدة الشرق الأوسط والشركة السعودية، والثانية عند مرضه، والأشد عند وفاته.. رحمه الله رحمة واسعة بإذنه تعالى.