وعاد النشاط الثقافي في تونس بعد ثورة الشعب التونسي.. هذه العودة كانت بعدة فضاءات ثقافية برمجت عدة أنشطة تجمع بين المسرح والأدب والمعارض، وكان من بينها عرض مسرحية “يحيى يعيش” للمخرج الفاضل الجعايبي والتي سبق وأن عُرضت في عدة مدن فرنسية. وقد تم عرض المسرحية مؤخرًا بالعاصمة التونسية بقاعة المونديال التي شهدت في السابق عرض هذه المسرحية قبل الثورة التونسية والتي كشفت عن حالة السلطة والنفوذ الذي ينخر جسدها. هذا الخطاب كان قد جسّده الممثلون الذين يخرجون من بين الجمهور، وليس من وراء الستار كما هو الحال في المسرح الكلاسيكي، لإرسال رسالة إيديولوجية بنزعة “تغريبية” تحريضية، هجائية، ساخرة، تسعى إلى إيقاظ ذهن المتفرّج واستفزازه باعتماد وسائل مختلفة، منها: الحوار، والجدل، والتحقيق والمسائلة التي تتمّ بين الشخصيات.. يعضد ذلك كلّه توظيف لمكوّنات الركح ومتمّماته السينوغرافية التي تتضافر للتعبير عن الدلالة العامّة للعمل، من ذلك الركح الفارغ الذي تتصارع فيه الكراسي في إضاءة شبه التامّة للقاعة بما فيها من جمهور وممثلين لكشف قصة المسؤول السياسي الكبير (يحيى يعيش) الذي يشكّل إبعاده المباغت حدثًا مدوّيًا أشبه بالانقلاب العسكري، وهو ما دلّت عليه أصوات الطلقات النارية الصاخبة التي أثارت الفزع والرعب بين الجمهور والممثلين، معلنةً بداية العرض.. بداية عهد جديد.. إيمانه بحسن سيرته.. وبراءته من أيّة تهمة وحسّ الوطنية المسؤولة لديه، يجعله يعزم على السفر خارج البلد حتى تهدأ الخواطر والأوضاع، لكنه يُفاجأ بمنعه وزوجته من قبل أعوان الأمن، وبحجّة الحفاظ على سلامته يُحجز جواز سفره، كما يبلغه خبر إيقاف ابنته متّهمة باستهلاك المخدّرات.. ويجد نفسه أخيرًا في مستشفى عمومي للمداواة من حروق جلدية، قيل له إنها من آثار الحريق الذي شبّ بمكتبته، وأتى على جميع ما يمتلك من وثائق وأوراق وكتب، ويجد “يحيى يعيش” (قام بالدور الممثل رمزي عزيز) نفسه محاصرًا من قبل أعوان البوليس السياسي في غرفة معزولة أشبه بالزنزانة، متّهما بحرق مكتبته، ويصعب عليه التمييز بين أعوان الأمن السياسي والأطباء الحقيقيين، ويلتبس مع ذلك كل الشيء في حياته.. تعكّر صحّة زوجته المريضة.. ثمّ تنكّر طبيبه الخاص الذي نال مقابل تقرير مزيّف عن صحته وزارة الصحة بعد الانقلاب، وعجز محاميه عن فعل أيّ شيء رغم أفضاله الكبيرة، إذ كان وليّ أمره مذ كان طفلًا، كل ذلك ضاعف في اكتئابه وعزلته، وحوّله إلى رجل مقعد، بل جثّة متهالكة على كرسي تتقاذفه الأيدي.. وزيادة في تعذيبه النفسي يتواطأ أعوان الأمن مع العاملات بالمستشفى اللّواتي يتعرّضن له، مشهّرين بمسؤوليته المباشرة عن أوضاعهن المهنية المتردّية. وتتمكّن صحفية (قامت بالدور الممثلة جليلة بكار) من مباغتته في المطار، ثم في المستشفى، ثم على الحدود التي اختارها للسفر خلسة، (ولعل ذلك تم أيضًا بتواطؤ من أجهزة الأمن التي تركته يعبر الحدود بعلمها)، لتردّد بإلحاح ماكر وبضحكة هادرة وساخرة رغبتها في إجراء حوار طويل معه، علّه يكشف عمّا تم إخفاؤه في عهده من حقائق وأخبار عن الفساد والسرقة وغير ذلك، وكانت النبرة الطاغية على لسان الصحفية تلمّح بخبث لنصيبه من المسؤولية فيما حدث، كما لا تخلو من روح التشفّي العابث.. كل ذلك يدفع “يحيى يعيش” إلى حافة الانهيار العصبي والجنون أو الموت (وهو ما يتمناه له خصومه السياسيون ويسعون إليه في حالة اختياره البقاء)، ولكن الرجل يظهر بالمقابل شجاعة وقدرة على مقاومة كل ذلك، فيذكّر دائما بوفائه بصفته جنديًا في الحزب والدولة، يرفض أن يتم استعمال قضيته من قبل المعارضين، كما أكد ذلك لمحاميه، ويؤكد للصحفية أنه مناضل خدم بلده بشرف وصدق، وإنه رجل مؤمن بقضاء الله وقدره، يبرّئ نفسه دائمًا من تهمة حرق مكتبته أمام المحقّقين، مستذكرًا علاقته الحميمة بالمعرفة وببعض الكتب التي كان يطالعها ومن بينها “الثابت والمتحوّل” لأدونيس، ويقوم باستذكار فقرة منه عن ضرورة تخليص العقل العربي من بنية التفكير السلفيّ. كما يؤكد في إحدى الندوات التي حضرها أمام الصحفيين أنه مازال وفيًّا للنظام رغم كل شيء، وإنه يؤمن بالديمقراطية في صلب الحزب الواحد (بحسب عبارته). إعادة عرض مسرحية “يحيى يعيش” التي تم إنتاجها سنة 2010 أكدت ما كان يعانيه الشعب التونسي وكأنه كان شيئًا من التنبؤ بما سيحدث في تونس، وكذلك أن المسرح ليس فقط أبو الفنون جميعا، (في قدرته التقنية على توظيفها لصالحه)، بل هو (ولنقل تجنّبًا لاتهام ما بالنزعة الأبوية البطريكية، وبنفس المعنى المجازي) الأم الحاضنة والمرضعة في كرم وحنان وتسامح للاختلاف، كما أكدت جرأة المسرحي التونسي الفاضل الجعايبي وأنه ما زال وفيًّا للمبادئ والثوابت الأولى التي انطلق منها، من أجل مسرح سياسيّ ملتزم “نخبوي للجميع”، مسرح أردناه من البداية سيفًا قاطعًا ضد الأفكار السلفية البالية واللغة الخشبية والكليشيهات، وهو يتقدّم إلى أبعد من ذلك ليجعل الركح منبرًا لمن مُنعوا أو حُرموا من الكلام، من الساسة والمسؤولين السياسيين في تونس وفي عالمنا العربي عمومًا الذين يتمّ إبعادهم من دوائر القرار والمسؤولية بطريقة قاسية وعنيفة. عن مسرحية ((يحيى يعيش)) تحدث المخرج الفاضل الجعايبي قائلًا: “تحدثنا في هذا العمل عن حالة الإحباط العام في تونس وقلنا إننا نسير في دروب بلا مستقبل نتيجة قمع الحريات وتفشي الفساد والظلم الاجتماعي وتوقعنا حدوث انقلاب لأن الحياة اليومية لم تعد تطاق، كنا نشعر أن الأمور ستتغيّر لكن ليس بتلك الطريقة والسرعة، لم نتكهن بما حدث للبوعزيزي، ولم نتصور أن الشباب سيخرج إلى الشوارع بكل ذلك العدد والغضب، وأن المجتمع المدني سيلتف حولهم مع كل القوى الحية.. كبارًا وصغارًا.. كنا يائسين من الشباب حقيقة، وهذا كان الغائب الكبير في مسرحية ((يحيى يعيش)).. كنا نندّد بتقاعس الشباب وأنانيتهم وقلة وعيهم السياسي، لكن العكس هو الذي حدث بفضل ثقافة الإنترنت وبالتلقائية نتيجة الإحباط العام”.