قناة الجزيرة حالة إعلامية لا أدّعي -ومثلي كثيرون- أني أفهمها، تكاد تكون بلا صديق في دوائر الإعلام الرسمي الإقليمي، وأعداؤها كثر بين الجمهور العادي، ومصداقيتها ليست فوق مستوى الشك، مع ذلك تحوز نسبة مشاهدة عالية. لا أعتبر نفسى صديقًا أو عدوًّا لها، ولا لأي وسيلة إعلامية أخرى، ما دامت تتمتع بقدر ما من الحرفية، ولا تفترض سذاجة المتلقي بما يجيز لها الأداء الساذج، الجزيرة ليست من هؤلاء، ولا هي أيضًا على ذلك الأداء العالي من الحرفية والنضج، الذي يغريني بوضعها على رأس أولويات المشاهدة، فكثيرًا ما تنزلق إلى الغوغائية، وتظهر الانحياز بشكل مكشوف، مع الأخذ فى الاعتبار أن الانحياز ليس تهمة، على ألا يصل إلى حد التعسف، وفى غير قليل من المرات سقطت فى حفرة التعسف. كل وسائل الإعلام منحازة، فهذه طبيعة دورها ورسالتها، لأنها ليست مراكز للبحث العلمي، ووراءها تمويل لا يدفع صدقات لداعي البر. في النهاية قدرة الوسيلة على الاستقطاب متوقفة على الرأي الذي يكوّنه المتلقي عنها، منذ انتهى عصر المتلقي الأسير، وبدأ عصر المتلقي متعدد الخيارات، ولابد من الاعتراف بأن الجزيرة ساهمت بشكل رئيسي في إنهاء ذلك العصر، وهذا ممّا يحسب لها. مشكلة الإعلام الإقليمي أنه مصاب بعمى الألوان، لا يرى إلاّ الأبيض والأسود، من ليس معي فهو ضدي، ويبلغ أحيانًَا درجة من ضيق الأفق تجعله يشترط أن تقول ما يريد بالطريقة التي يريدها، فإن قلته بأخرى عدّك لست من ربعه، وما دمت لست منهم استبعدك، فإن لم يستطع أطلق عليك زبانية السلاطة والبذاءات، يظن بذلك أنه كسب نقطة، على اعتبار أن لا فرق بين معركة إعلامية، وخناقة فى الشارع. عيوب الإعلام العربي كثيرة ومحزنة، والجزيرة ليست بمنجاة منها، المتابع لها سيلاحظ انحدارًا في الأداء، في الوقت الذي نفترض بأن الممارسة والخبرة تقود إلى العكس. هي ليست استثناءً من ظاهرة البداية الحسنة التى يتبعها تردٍّ، ظاهرة تكاد تكون قانونًا إعلاميًّا في هذا الإقليم، كم من قناة أو جريدة بدأت مبشرة ثم انتكست، لأنك ما إن تنزل البحر حتى يعلق بك ملحه، فهي وسواها أبناء فضاء إعلامي له خصائصه -عافانا الله منه-، المانعة للتجويد، الحاثّة على النكوص. قد يقول قارئ داهية وهو يبتسم ويغمز بعينه: ويا ترى هل ينطبق هذا على قناة «العربية» أم لا؟.. نعم ينطبق، والجزيرة أكثر منها إثارة، ولو ضاق وقتي بحيث لن يسمح لى إلاّ بمشاهدة إحداهما سأختار الجزيرة، والحمد لله أن لا خياراتي، ولا خيارات المشاهدين محصورة، ولا وقتهم بضيق. توقّعت أن تستغل الجزيرة الأحداث الساخنة الجارية على ساحة العرب بما يزيد حصتها من المشاهدين، فخابت توقعاتي، وتأكدت ممّا كنتُ مرتابًا فيه منذ زمن، إنها أكثر حرفية في تسخين البارد منها فى استثمار الساخن، لاحظت ذلك منذ تغطيتها المتناقضة الغامضة إبان غزو العراق عام 2003. ثم أثناء الجاري من الأحداث، ربما لأنها جرت بأسرع من إمكانيات المتابعة، وربما لأن القناة اعتبرت نفسها طرفًا في الأحداث لا متابعًا لها، الأمر الذي يثير الكثير من علامات التعجب.. ثمة ملحوظة تبدو عديمة الأهمية عند المشاهد العادي، أو قل خطأ يسيرًا قابلاً للغفران، لكنه في مقياس الأداء المهني لا يمر مرور الكرام، عندما ذكرت وكررت أن إجدابية تقع إلى الغرب من بنغازي، بينما لا يحتاج الأمر لأكثر من نظرة إلى الخريطة لترى أن لا شيء يقع إلى الغرب من بنغازي إلاّ البحر، وإن أردت أن تتعب نفسك أكثر (كما يتوجب على مهني أن يفعل)، ونظرت إلى خريطة أكثر تفصيلاً سترى أن إجدابية تقع إلى الجنوب من بنغازي بمئات الكيلومترات، قلت لك قد لا يكون هذا مهمًّا، والآخرون يقترفون أخطاء أسوأ من هذا بمراحل، لكنه يقول الكثير عن مهنية الأداء، واحترام المتلقي. [email protected]