على مدى سنوات من (العطش) بكل ما تحمل هذه المفردة من دلالات الحاجة إلى العدل والمساواة والحرية، وبكل ما تكشف عن مظاهر الجفاف والفساد والقهر وانتهاك الحريات وسلب الحقوق ومشاعر الغربة داخل الوطن والدفع إلى الغربة خارجه.. بكل ما يحتمل معنى (العطش) من تأويلات واحتمالات وتفسيرات.. كانت قصائد هذا الديوان مشحونة بالرفض والغضب والاستنهاض وطرح الأسئلة الموجعة، لذلك جاءت الكتابة الشعرية فيه وكأنها حالات سردية ل(سيرة العطش) الطويل المؤلم في صحراء مترامية على خريطة من القمع والتعب، سنوات شغلوا فيها المواطن المصري برغيف الخبز عن أحلامه وتطلعاته وأمله في واقع أفضل يليق بتاريخه وقدراته وكرامته وحقه المشروع في التمتع بالحرية.. طالت سنوات (العطش)، وأنا أسعى لتسجيل (سيرته)، و(سيرتي معه) كمفرد ينتمي للجمع، وفي الوقت الذي قررت فيه إطلاق سراح هذه (السيرة) إلى الناس الذين صبروا طويلاً على (العطش)، كان هؤلاء الناس على موعد مع (الثورة) ضد نفس (العطش)، كانت مصر كلها تجمع تراكمات القهر وتصبها في إناءٍ من الغضب النبيل، كانت ترسم خريطة أخرى لوطنٍ له ملامح مختلفة عن التي شوَّهتها السنوات العجاف الثلاثين التي رسخت فينا مفهوم (العطش) مع أننا أمة تعيش على نهرٍ جارٍ وخالد.. إنها مفارقة مدهشة ومفاجئة في ذات الوقت، ولكنها كانت محسوسة ومنتظرة ومتوقعة، فقبل نحو شهرين تقريباً كنت بصحبة اثنين من أصدقائي نناقش بعض أوجاعنا الوطنية، ويومها أثناء الحوار قلت لهما: (تاريخ مصر يؤكد أن التغيير سُنة مؤكدة، والشعب المصري يصبر ثم يصبر ويصبر، ولكنه في لحظة معينة يقرأ الفاتحة على الصبر ثم يتوضأ لصلاة التغيير)، وقد كان، كان التغيير (ثورة) شهد العالم برقيها ونبلها وتحضُّر الشعب الذي صنعها، لم أكن أعرف أن هذه الجملة التي قلتها بتلقائية وعفوية ذات جلسة مع صديقين متشبثاً بالأمل، وخرجت من لساني كأنها مطلع عابر لقصيدة لم تكتب، لم أكن أعرف أن بعد أقل من شهرين ستتحول هذه الجملة الحلم إلى واقع يمشي على قدمين في كل شوارع وميادين مصر، لم أكن أعرف لماذا في هذا التوقيت تحديداً قررت إصدار ديوان (سيرة العطش)، مع أني منذ فترة طويلة أفكر جدياً في وضع نهاية لهذه الحالة وإصدار الديوان بهدف الدخول إلى حالة أخرى، لكني كنت دائماً أتراجع بلا أسباب واضحة، ومنذ نحو شهرين كما أشرت تملكني إحساس عارم بضرورة طي هذه الحالة وجاء ذلك متزامناً مع تلك الجملة التي قلتها في حضرة اثنين من أصدقائي، وبالفعل تم تجهيز الديوان وإرساله إلى (مركز المحروسة)، وفي نفس الوقت الذي شعرت فيه بأنني طويت حالة من الألم عشتها لسنوات طويلة، كانت مصر كلها تقرأ الفاتحة على الصبر، وتغلق باب القهر، وتتوضأ لصلاة التغيير، وتبدأ تاريخها الجديد في (25 يناير).