كانت - ولا تزال- سياسة بعض الدول العربية تسير وفق المعنى الكنائي للمثل القائل: (جوّع شعبك يتبعك)، وهو كناية عن الإذلال الذي يولّد التبعية، فرأوا أن خير وسيلة لضمان تبعية الشعوب لهم هي جعلهم يرزحون تحت ضغط الجوع والعوز؛ ليظلوا دائمًا مرتبطين بتلك اليد التي تمتد إليهم لتسد رمقهم بقطعة الخبز التي تقذفها لهم كلّما تضوروا جوعًا، فيفرحوا بها، وتظل قلوبهم ممتنة وشاكرة لتلك الأيدي الكريمة اللئيمة. هذا المعنى الكنائي يستبطن في داخله معنى مقابلاً، وهو أن رفاهية الشعوب والاستجابة لمطالبها يجعلها تتقلب في رغد العيش، ما يؤدي بها -في اعتقادهم- إلى رفاهية الفكر، ورفاهية الوعي، ما يدفعها للمطالبة بحقوقها، والمطالبة بالحقوق معناه القضاء على الفساد، وهذا معناه في عقيدة السلطة الديكتاتورية تعالٍ على السلطة، وتهديد لكرسيها الذهبي الوثير بالانهيار، وتفريق لشمل شلل الأنس التي طالما طبّلت وزمّرت لمواكب الفساد. هذه هي الفكرة التي ترتعد لها فرائص بعض الأنظمة العربية، التي آثرت إذلال الشعوب لتظل تابعة لها. إن هذا الأسلوب الديكتاتوري ربما كان مسكوتًا عليه في أزمنة مضت، حين كان الفرد مغلوبًا على أمره، منعزلاً عن العالم فكريًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا.. أمّا اليوم، فقد انفتحت فضاءات الشعوب، وأصبح العالم كله يأتي بين اليدين بضغطة زر واحدة على جهاز لا يتعدى كف اليد أحيانًا. فقد أصبحت العين ترى، والعقل يُفكِّر، والوعي يُشكِّل، والنفس تطمح، والتغيير يُغري الجميع بألوان طيفه الجذّابة، ومع هذا فإن بعض الأنظمة العربية لا تزال تُغمض عينيها، وتصم آذانها، وتستغشي ثيابها عن إدراك أبعاد هذا التغيير، وهذا التطور الهائل الذي تقوده عقول شابة، كما تأبى أن تعترف بأن شباب اليوم في عقليته وطموحاته ورغباته ووسائله، غير شباب الأمس، فظلت تتعامل معه بتلك الثقافة البائدة، وأخذت تستهزئ بتلك الأجهزة الصغيرة، وقدرتها على التغيير، بل وازدادت تعنتًا وازدادت ديكتاتورية لاعتقادها أن سياسة تجويع وإذلال الشعوب هي أنجح سياسة على مر الأزمان، وفاتها أن المعنى الكنائي للمثل الديكتاتوري البائد (جوّع شعبك يتبعك)، أصبح يقابله اليوم معنى كنائيًّا لمثلٍ وُلد مع متغيرات العصر وهو (جوّع شعبك ينهشك)، حيث أضحت الشعوب الواعية اليوم تُمزّق عنها رداء الذل والهوان، وطفقت تنعم بعمائم العز والكبرياء، وترتدي حُلل الحرية والكرامة، فعلى تلك الأنظمة التي لا تزال تتغنى بتلك الأمثلة الغبية التي رسمت عليها سياستها أن تستفيق من سباتها العميق، وتفرك عينيها جيدًا، وتنفض الغبار عن فكرها، وتعلم أن أفضل سياسة لاستمرارها هي مصادقة الشعب، واحترام إنسانيته، ومشاركته آماله وطموحاته، وتلبية احتياجاته، فما كان بالأمس ترفًا أصبح اليوم ضرورة حتمية. والله إن متطلبات الشعوب متطلبات متواضعة غاية التواضع، وأحلامهم سهلة التحقيق، فالشعوب لا تطلب أكثر من الأمن والأمان الديني والنفسي والفكري والاقتصادي، فكل فرد في المجتمع بحاجة إلى عمل كريم يكفل له حياة كريمة، وتعليم راقٍ يواكب العصر ومستجداته، وعلاج يضمن له صحة جيدة، ومسكن كريم يؤويه هو وأطفاله من حر الصيف وقر الشتاء. يريد الفرد أن يشعر بكرامته وإنسانيته عن طريق التعبير عن رأيه بكل حرية وصراحة، ويجد آذانًا صاغية حكيمة تناقشه وتحاوره وتشاركه وتلبي طلباته، ولن يتحقق ذلك إلاّ بالمساواة بين الأفراد، وهذه المساواة لن تتحقق إلاّ بالعدل والقضاء على الفساد. فإذا رأيت جميع أفراد المجتمع مستفيدين من خيرات البلاد، ينامون آمنين، ويستيقظون مطمئنين، فاعلم أن تلك هي السياسة المنشودة المطموع في نيلها، أمّا إذا رأيت الطبقية هي السائدة، والفساد هو مَن يعبث بثروات الوطن، فاعلم أن البركان الخامد سوف يثور يومًا، وهذا ما حصل في تونس وفي مصر، وما تسعى إليه بقية الشعوب الثائرة الآن، فالحقيقة التي باتت واضحة كوضوح الشمس أن تلك الأنظمة التي لا تحترم رغبات شعوبها هي حتمًا إلى زوال.