مرت ثورة الشباب المصري التي وُصِفت ب(الثورة البيضاء) بسلام بعد أن حققت مرادها خلال (18) يومًا من انطلاقها. رسمها الشباب المصري لوحة بديعة للتعبير عن همومهم وآمالهم، ورغبتهم الجامحة في الحرية ونَيل الحقوق وغيرها من المطالب التي نادوا بها. ولقد اكتسبت هذه الثورة مسمى (الثورة البيضاء)؛ لأن الشباب المتظاهرين جنحوا للسَّلم، ولم يعمدوا للفوضى والخراب وتدمير المنشآت وإزهاق الأرواح والعبث بالممتلكات العامة، وهذا ما عُرفت به الثورات طوال مسيرتها خاصة في أوروبا، ومثال ذلك الثورة الفرنسية بما خلفته من قتلى ودمار. بل إن هؤلاء الشباب كانوا (جنودًا مدنيين) في وجه مَن أراد استغلال الثورة لتحقيق أطماعه عن طريق السلب والنهب. ومنذ (انقلاب) الضباط الأحرار عام (1952م) لم تشهد مصر ثورة بالمعنى الحقيقي للثورة حتى جاءت الثورة الحالية بحلتها الزاهية لشباب أخذوا على عاتقهم رفع معاناة بلد هو مهد الحضارة ومولد الأنبياء وصانع التاريخ منذ سبعة آلاف سنة. هذه الثورة نستطيع القول إنها فريدة في نوعها، فهي ثورة عصرية حضارية بكل حمولات الكلمة، وهي ابن شرعي للتقنية ممثلة في الإعلام الحر الذي أخذ على عاتقه كشف الحقيقة عبر وسائطه الحديثة. من ميدان الحرية انطلقت ثورة الشباب البيضاء لتعم ميادين متعددة من أرض الكنانة، ثم سرت في أرجائها سريان مياه النيل الخالد. وكأني بميدان التحرير أضحى معملاً لصناعة التغيير بأشكاله وصوره، فمنه انطلقت (هدى شعراوي) قبل (90) سنة لتنزع نقابها معلنة –حسب زعمها- تحرير المرأة من قيود النقاب. وليت عملية النزع تلك توقفت على (المُختَلَف عليه) بين الفقهاء لكنها تعدت إلى أبعد من ذلك! نعود للثورة البيضاء التي ارتكزت على قاعدتين كانتا نقطة الانطلاق لنجاحها: القاعدة الأولى تتمثل في (الشباب) الذين ثبتوا على مبدئهم وصمدوا أمام محاولات التيئيس والتقنيط، ولم يَهِنوا أمام بيانات التهديد والوعيد المتتالية. هم أوقدوا شعلة الثورة ولم يرضوا أن تُطفَأ قبل أن تُنير الزوايا المظلمة وعتمات الطريق الموحشة. ولعل في تبنِّي الشباب لهذه الثورة رسالة صادقة مفادها إن الشباب هم الوقود (المُفلتر) الخالي من شوائب الضعف والوهن، الخالي من الأطماع الذاتية المتورمة لدى بعض المتكلِّسين، وإنهم هم القوة الحقيقية في أيدي بلدانهم متى ما سعت لتحقيق مطالبهم واستثمار طاقاتهم عن طريق إيجاد الفرص الوظيفية والمهنية لينخرطوا فيها مفرِّغين شحناتهم من خلالها ليصنعوا لبلدانهم نهضتها، ويرقوا بها إلى الصفوف الأولى التي طالما اشتهتها. القاعدة الثانية للثورة تتمثل في الإعلام بوسائط الاتصال المتعددة ك(الإنترنت والفيس بوك وتويتر) التي قربت بين أفكار الشباب، ووحدت كلمتهم، وحددت زمان ومكان انطلاق الثورة، وكانت حلقة الوصل فيما بينهم. يضاف إلى ذلك مهنية بعض القنوات الفضائية ك(الجزيرة والمستقلة)، اللتين جلَّتا الصورة أمام العالم، وتواجدتا على أرض الثورة، وكشفتا الممارسات التي تمت بحق الشعب المصري ومهما اختلفنا على قناة الجزيرة في تغطيتها لأحداث الثورة المصرية مقارنة بأحداث أخرى فيكفي أنها احترمت مشاعر الشباب ولم تصادر ثورتهم، فكيف نلومها حين صدقت –هذه المرة- في رسالتها؟ ثم ما عذر الإعلام (الذي أنكر الثورة أو بخسها حقها)؟ هنا يقف الجميع احترامًا لهؤلاء الشباب الذين مرت الثورة على أيديهم بأقل الخسائر ضد بلدهم، إذ كان هدفهم واضحًا لا لبس فيه، وهو ما جعل العالم –بما فيه الغرب- يتعاطف معهم، ويرتضي ما يرتضونه لمصر؛ فهم أدرى بحالهم وليسوا بحاجة (لإملاءات خارجية)، وهي التي وُصِموا بها تارة، وبنزعة (الإخوان المسلمين) تارة أخرى؛ لأجل الاستعداء ليس إلا، في حين إن الثورة كانت بيضاء في ممارساتها وأهدافها؛ فلم تكن مؤدلجة، ولم تقم نتيجة مطامع سياسية، بل كانت ثورة شعبية من اجل التغيير، ولم يتبنَّها تيار ولا حزب ولا حتى ديانة. بقي أن نقول إننا نتطلع لأن تمثل هذه الثورة عودة قوية لمصر؛ لممارسة أدوارها (الحقيقية) مع شقيقاتها لخدمة القضايا العربية والإسلامية. فمصر بعراقتها وثقلها السياسي وموقعها الحيوي قادرة على تغيير مسار التاريخ إلى وجهته الصحيحة، قادرة على إعادة الحق العربي والإسلامي المسلوب. يكفي أنها بثورتها هذه أثبتت أن الشعب –وليس غيره-هم القوة الحقيقية التي تملكها اية دولةوتراهن عليها وقت النوازل.