لم تترك لنا الساحة المصرية شيئاً يُقال فقد قُدَّت من الصخر كل ما قد اهتصرته الصدور العربية لأجيال وأجيال.. وحركت الركود المتكلس في أوردة الشارع العربي منذ دهور حين نسي في لهاث الحياة اليومية ولقمة العيش وصراخ الأطفال الكثير من أحلامه ومشاعره، ولم يبقَ ليواصل مضغها مع إفطاره المتكرر ويلحق بركب العمل لتبدأ آلة الطحن اليومي التي لا تبقي ولا تذر لتتركه في نهاية المطاف أمام قنوات تزرع الغيظ أكثر مما تنجي من الكرب. ها نحن على الواقع اليومي المعاش نقول إن الأجيال العربية ما زالت بخير رغم كل مل اتهمناهم به من الاتكالية والتقهقر والرغبة في العيش السهل والركون إلى البلادة واللهاث وراء آخر التقاليع في كل شيء. إلا أن هؤلاء بكل ما قلنا ولم نقل أبهروا العالم بإصرارهم الذي قد أجبر فطاحلة المثقفين والكثير ممن يشار لهم بالبنان هناك أن يحاوروهم في الميدان ويشاركوهم رأيهم بعد أن أحجموا طويلاً إلا ندرة منهم إما خوفاً وطمعاً أو انتهازية. هؤلاء الفتية والفتيات والأطفال، وأقول أطفال لأن فيهم من لم يتجاوز الطفولة بكثير، قادوا مسيرتهم بشكل خرافي منظم سرعان ما يتغلب على كل الأزمات المفاجئة والخروقات الأخلاقية أو السياسية بحلول مذهلة في سرعتها وديناميكيتها وانسجامها مع الحدث فنظموا لجاناً للحراسة والمتابعة للممتلكات والشوارع من أهالي الأحياء ومنهم، عندما هاجم اللصوص المنازل والشوارع، ولجان أخرى للطعام وأخرى للدواء، وتناوبوا فيما بينهم كل شيء وتقاسموا كل القليل. حاولوا احتواء جيوش البلطجية الدافقة والمسلحة بالحسنى قدر الإمكان إلى أن فصل الجيش بينهم لإصرار البلطجية على تنفيذ مهمتهم. بل هم وحدهم من علقونا في الشاشات أياماً لا ننام إلا لماما ليس لأننا نتابع تقلب الفتية في ستار أكاديمي أو تلويحات وناسة وفراسة وأخواتها، كما تفعل الغالبية المتثائبة. بل لأننا نتابع الغضب الجمعي الذي أيقظ الشارع العربي من غيبوبته وحرك بعضاً من شغفه والذي لم يكن مفاجئاً للمتأمل في أحوال الشعب المصري بل متأخراً، لأن ذلك التراكم الهادر ينادي باستعادة الكرامة والحقوق والحياة الإنسانية لشعب صبور حُرم منها طويلاً بل إنني في كل مرة أزور مصر على مدى سنوات طويلة أستعجب من قدرة هذا الشعب على الصبر الأيوبي الذي يتجرعه، والصمود والعيش بأقل القليل حتى تبخر هذا الأخير كذلك. ورغم صعوبة الموقف وتجرعه العسير إلا أن من حسناته أن جعل القومية تتنفس مرة أخرى بعد غيبوبة طويلة، فلم يشعر الكثيرون إلا أنهم من ضمن هؤلاء، وبعضهم فيهم ولهم. ونظرة عميقة إلى سجل متابعات الشعوب العربية للحدث وتعليقاتهم عليه بغض النظر عن التشكيك أو التأكيد الجاهز لدى البعض فيها إلا أنها بلا شك مؤشر قوي على أن الكل في هؤلاء، وهؤلاء في الكل، شعلة توقدت ناهضة غيرت وستغير الكثير في مكانها وزمانها، فمصر بعد الخامس والعشرين من يناير لن تكون هي ذاتها أبداً لأن شبابها هم وقودها وصانعو دينامكيتها دائماً.. وقد قالوا كلمتهم. كما أن بعض الأنظمة العربية عندما تداعى العالم عليها بعد 11 سبتمبر داعياً إياها إلى إحداث التغييرات المختلفة، بررت عدم تجاوبها لذلك بأن التغيير لا بد أن ينبع من عمق مجتمعاتها لا مفروضاً عليه، وها هو المجتمع المصري الآن يتحدث بل يصرخ، فلماذا تصم الآذان تجاههم، وإن لم يصنع الملايين تاريخاً فمن يصنعه..؟! [email protected]