عندما صدحت أم كلثوم ذات مساء مشحون بأغنيتها الشهيرة: إنما للصبر حدود في القرن الماضي؛ لم تكن تستهدف مُفرداتها الممارسات الوجدانية - تحديدًا - والتي يقوم العُشاق بتجاذبها مع بعضهم في هزيع الليل جراء حرمان التلاقي، وما يتبعه من ويلات القطيعة إذا تنفس الصبح، بقدر ما كانت جرس إنذار يضرب بلغة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب لكل من ستتضخم عنده الأنا للدرجة التي تُنسيه نفسه ناهيك عن احتقاره للآخرين. استنطقتْ بنات أفكاري هذه المُقدمة بعد ثورة الياسمين التونسية التي أطاحت بنظام شممنا رائحة دكتاتوريته كانبعاث شذا وردة الياسمين؛ وشتان بين عطر الورد وعفن مستنقع الاستبداد؛ الذي أثبتت تداعيات الأحداث أنه لا بد من يوم لمعالجته، وتحويله إلى جدول يُبهج العين، ويُريح النفس، وهذا ما أحدثته هذه الثورة التي انطلقت من الشارع - المكان الطبيعي للثُّوار - ليثأروا لكرامتهم، ويُخلِّصوا إنسانيتهم من عبودية النظام الاوحد. إن مؤشرات هذه الثورة الإيجابية تعكس وعيًا شعبيًا يأبى أن يكون أداة مُطواعة في أيدي النُخب التي تتحكم في مصيره بل وفي تحديد لُقمة عيشه المغموسة في الذل والهوان، وتُعطي دلائل لا تحتمل التأويل مفادها أن الشعب التونسي قال كلمته وعلى المتسبب أن يتحمل النتائج، لقد آتت هذه الثورة أُكلها يانعة فالنظام رحل إلى غير رجعة، والشعب تنفس الصعداء، وما بين الرحيل وشم النَفَس دروس يجب أن تعيَها أُذن واعية وهي أن مفهوم الزعيم الرمز قد ولّى، وأن تفكير الأجيال العربية الجديدة مُغاير لما سبقها من أجيال، وأن تكميم الأفواه الذي تمارسه بعض الانظمة هو سياسة العاجز الذي لم يستطع أن يُطعمها من جوع ويؤمنها من خوف، وأن هناك خطوطًا حمراء لكرامة الإنسان لا يمكن المساس بها، وأن العدل هو أساس الحكم، بينما يجب على المحكومين ألاّ يؤلهوا الأنظمة، وأن يعوا أن التاريخ لن يرحم سكوتهم على القهر، وأن الحرية قيمة لا يمكن التفاوض عليها؛ بل هي حق مُكتسب للجميع وفقًا للدساتير السماوية والوضعية على حدٍ سواء. منعطف استشرافي قديم لقد استجاب القدر لرؤية الشابي عندما حضرت إرادة الشعب، وانجلى الليل البهيم، وانكسر القيد الحديد؟! [email protected]