منذ انقطاع الوحي، بوفاة خاتم الأنبياء والمرسلين فداه كل من خان رسالته وشوَّه تعاليمها «كلٌّ يؤخذ من كلامه ويرد»، كما يقول «مالك»! وإن تعارض مايقول مع القرآن العظيم، فاضرب به عرض الحائط، كما يقول «الشافعي»؛ ولو كانت المقولة الشهيرة لسيدنا/ «علي بن أبي طالب» كرَّم الله وجهه : «لا تجادلوهم بالقرآن فإنه حمَّال أوجه»! فالله تعالى يقول: {وجادلهم بالتي هي أحسن} وأي شئ أحسن من القرآن؟ واقرأ «نهج البلاغة»، وانظر بِمَ يجادل «عليٌّ» نفسه خصومه، ثم يصلِّي صلاة الجنازة عليهم ويدفنهم مع أنصاره جنباً إلى جنب؟ أما مقولته تلك فقد تواطأ على استثمارها كثيرٌ من دعاة «الدروشة»، و»الكهنوت»، واحتكار العلم، والوصاية على الدين والأمة، إلى أن غدونا في موقف المدافع عن نفسه، الخائف أن تتخطفه الأهواء! وصرنا من المهانة الفكرية إلى درجة أننا لا نبادر بأي فعلٍ فلسفي، بل لانقوم برد فعلٍ إلا إذا اضطررنا إليه اضطراراً، وعلى استحياء لايليق بأضعف العقول، وأوهن القناعات! وكأنَّ القرآن العظيم نزل هشَّاً ضعيفاً، وقد نزل متحدياً مبادراً بالهجوم؛ فأعلن تسفيهه للعقلية العربية «الشركية»، التي لم تجد من حجة سوى {إنا وجدنا آباءنا على أمة}! ونازل أئمة الفصاحة وصناديد البيان، بكل وضوح: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}؟ {وإن كنتم في ريبٍ مما نزَّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين}! {قل لئن اجتمعت الإنسُ والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآنِ لايأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً}! ولكيلا يركن بعضهم إلى بعض، بدعوى الجهل، أو «عدم التخصص» قال تعالى مراراً وتكراراً: {ولقد يسَّرنا القرآن للذكر فهل من مدِّكر}؟ فجعل المسؤولية فرديةً خالصةً، فرض عينٍ على كل إنسان، لا فرض كفايةٍ، و{لا تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أخرى}! وبعد أن حطَّم القرآن العظيم أصنام الشرك والعناد، التفت بالقوةِ نفسها مخاطباً «أهل الكتاب» الذين {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}، والذين {يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض}، بعد أن أكَّد على محمدٍ وأتباعه/ «الذين آمنوا» بقوله: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون}، فقال لهم: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نَزَّلنا مصدِّقاً لما معكم من قبل أن نطمسَ وجوهاً فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنَّا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولاً * إن الله لايغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء...}! فماذا لو عدنا إلى بداية البعثة المحمدية الشريفة، وبادرنا الأمم بما لدينا من فكرٍ ورسالة؛ بدل أن ننكفئ على ذواتنا وننتظر الصفعة تلو الصفعة، ولا نرد إلا بمزيدٍ من الصراخ؟!