ثمة أسسٌ ومبادئُ إن لم يقم عليها خطاب النهضة المنشود؛ فسيكون تكرارًا لما سبق، ولعل من أهم الأسس التشخيص الحقيقي لأدواء الأمة.. فهذا هو المدخل الأساسي لوضع اليد على مكامن الداء الحقيقي الذي عطل الأمة عن مسير الأمم ورمى بها بعيدًا للوراء. والحقيقة أن الأدواء كثيرة، وليست داءً واحدًا. ولعل أحد أهم أسباب إخفاق مشروعات النهضة طَوالَ العقود الماضية هو التشخيص الخاطئ. فالعقلية الببغائية (التي كانت مجرد صدى لما يطرح في الغرب) حصرت سبب التخلف في الدين، وبعضهم خففها في العقلية الدينية، والبعض حصرها في الجانب السياسي أو الاقتصادي. لذلك.. كانت خطوات العلاج ناقصة ومبتورة، وربما ضرت أكثر مما نفعت. ونحن قد لا نجادل في أن الأمة تمر الآن بأسوأ مراحلها، وقد ضربت جسدَها الهزيل أمراضٌ عديدة أصبحت مزمنة وكأنه استحال إيجاد علاج لها، بالإضافة إلى أن هذه الأمراض أعقد من أن يشخصها أو يصل إلى أعماقها فردٌ واحدٌ أو مجموعةٌ منفردةٌ وبإمكانيات محدودة من النظر والبحث. الأمة في أشد الحاجة إلى صفوة عقولها الصادقة المخلصة الواعية بطبيعة واقعها وتعدد مشكلاتها في جميع التخصصات؛ لتقوم بدراسة واقع الأمة كما هو، وتستعرض مشكلاته جميعها بالتفصيل الدقيق (لا يطغى جانب على جانب). ويجب ألا تتطاول بنا فوق المعقول فترةُ مثل هذه الدراسة.. فكم أهدرنا من أعمارٍ وجهودٍ ولم ننجز شيئًا! وفي حال التشخيص المتكامل وبيان الأسباب الحقيقية أو ما كان عرضًا لسبب ونظنه سببًا؛ تقدم الحلول المبنية كذلك على دراسات متخصصة ومعمقة. وقد تحتاج بعض الأمراض زمانًا طويلًا لعلاجها، ولكن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة، ومشروع النهضة مشروع يقاس بعمر التاريخ لا بعمر الأفراد، فغالبًا لا ينجز في حياة جيل واحد. وما أكثر ما تضررنا من استعجال الثمرة! وإذا كان لابد لنا وإن في مثل هذا المدخل أن نرصد أهم أمَّات المشكلات والأدواء التي هي العوائق في طريق نهضة أمتنا؛ فإننا يمكن أن نكثفها في هذه السبعة. الاستبداد: الذي يقمع الناس ويقسرهم على أهواء الحكام وما يشتهون من الحكم المطلق في البلاد والعباد! والاستبداد كله ما ظهر منه وما استتر شرٌّ، ولا سبيل إلى نهضة حقيقية دون الحرية الكاملة، فقديمًا قال عنترة لسيده إذ طلب منه الكَرَّ: العبد لا يَكُرّ! ومن هنا.. فلا عجب أن يتفطن علماؤنا إلى أن يجعلوا الحرية من أهم مقاصد الشرع العليا. 1- غياب العدالة: فالعدل أساس الملك، كما يتغنى الجميع من غير جدوى! وما أذكى ابنَ تيمية رحمه الله حين قال: إن الله ينصر الدولة العادلة.. وإن كانت كافرة، على الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة!. التسيب الأخلاقي: فالأمم كما يقول أمير الشعراء الأخلاقُ ما بقيت، فإن ذهبت أخلاقهم؛ ذهبوا! وقد حصر النبي الأكرم صلوات الله عليه الغاية من إرساله في إتمام مكارم الأخلاق، وكذلك أشارت الآية الكريمة: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (سورة الأنبياء).. وهل الرحمةُ إلا جُمَّاع الأخلاق الكريمة؟! 2- التخلف التنموي: الذي أوصلنا إلى الحال التي وصفها الشيخ محمد الغزالي بقوله: إنني أخشى إن قيل لكل شيءٍ في بلادنا: عُدْ من حيث أتيت؛ أن نمشي حفاةً عراةً راجلين! (أو كما قال.. رحمه الله). وهذا التخلف عميقٌ في بنية حياتنا اليومية، حتى وإن تبهرجنا بكثيرٍ أو قليلٍ من مظاهر الحداثة.. فهي مصطنعةٌ زائفة، على حد ما قال نزار قباني: خلاصة القضيةْ توجز في عبارةْ/لقد لبسنا قشرة الحضارةْ/والروح جاهليةْ! 3- التخلف التِّقْني: وهذا جزءٌ مما سبق، لكنه قد يكون الجزءَ الأهم والأفدحَ أثرًا والأظهرَ أثرًا! فنحن نكاد نكون خارج سياق الحضارة المعاصرة، إلا أن نكون مستهلكين! 4- الجمود والتقليد: على صعيد الفكر والثقافة والعلم، فيما يخص أمور الدين وشؤون الدنيا جميعًا! لا نزال نجتر ماضينا اجترارًا، أو نقلد مناهج شرقيةً أو غربيةً تقليدًا غير مستبصر. 5- التمزق والتدابر: على صعيد السياسة والاقتصاد.. فلا نزال عاجزين عن تحقيق الحد الأدنى من التنسيق السياسي (مجردالتنسيق لا الوحدة المتكاملة!)، كم أننا عاجزون عن تطبيق أبسط صور التعاون الاقتصادي (مجرد التعاون لا التكامل وصولًا للاكتفاء الذاتي في محيطنا!). 5- الاستلاب والتبعية: على مستوى القرار السياسي والسيادة على الأوطان.. وهذا سببٌ فيما سبق من وجهٍ، ونتيجةٌ له من وجهٍ آخر. فالطغيان والظلم والانحلال والتخلف والجمود.. كلها كوارثُ تجلب الطغاة، والغزاة لا يدخلون قريةً إلا جعلوا أعزةَ أهلها أذلَّةً!