لمرات عديدة تنجح وزارة المالية في وضع ميزانية متوازنة للدولة، وهذا ليس بمستغرب عليها؛ لوجود كفاءات وطنية مخلصة، استطاعت -بدعم وتوجيه من ولاة الأمر في هذا البلد- أن تتحفنا كل سنة مالية بأرقام ضخمة لمشاريعنا التنموية، ولم يتبقَ إلاّ أن تقوم كل مصلحة حكومية -كل فيما يخصها- بالتنفيذ دون إبطاء، حتى ينعم مجتمعنا بالخير والرفاهية والازدهار. ففي يوم الاثنين الماضي أُعلن عن أضخم ميزانية للدولة السعودية منذ تأسيسها، والتي بلغت بالأرقام (580 مليار ريال سعودي)، بزيادة قدرت ب(40 مليار ريال) عن ميزانية الدولة للعام الماضي. وتأتي هذه الميزانية الضخمة والمتوازنة في الوقت ذاته تتويجًا لحرص ولاة الأمر في المملكة، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين، وسمو ولي عهده الأمين، وسمو النائب الثاني وزير الداخلية -يحفظهم الله جميعًَا- على تنويع مصادر الدخل، من خلال التركيز على إيجاد البنى التحتية، وتحديث القائم منها ودعمها، وكذلك المدن الصناعية والاقتصادية في مناطق المملكة المختلفة، والصناديق التنموية العقارية منها والصناعية والاجتماعية والاستثمارية، وبنك التسليف وغيرها كمشاريع تنموية ذات عائد اقتصادي واجتماعي وتعليمي وأمني وصحي وغيرها من العوائد على الوطن والمواطنين، وتوفير فرص عمل للمواطنين الذين هم المحور الرئيس في التنمية. بالطبع لن يكون حديثنا وتركيزنا على هذه الميزانية الضخمة بالأرقام وبالتفصيل، فالمكان لا يتسع، ووزارة المالية أعلنتها للجميع، ولا نريد تكرارها، فالأرقام عادة تتحدث عن نفسها، ولكن ما يهمنا كوطن ومواطنين هو أن هذه الميزانية ركّزت على قطاعات مهمة كالتعليم، ودعم البحث العلمي والتدريب، والصحة، والخدمات الأمنية، والاجتماعية، والبلدية، والمياه، والصرف الصحي، والكهرباء، والطرق، والتعاملات الإلكترونية، والزراعة، والنقل، وهي من البنى التحتية التي يقاس فيها تقدم ورقي أية دولة في العالم. ولأول مرة نلحظ التركيز على دعم البحث العلمي، من قبل وزارة المالية، كأهم رافد من روافد دعم الميزانية، كونه يرشد المشاريع التنموية، بل إنه الموجه الحقيقي لأي مشاريع تنموية حاضرة ومستقبلية، فبدون البحث العلمي ونتائجه وتوصياته وآلياته للتنفيذ من قبل الباحثين المتميّزين، فإننا لا نستطيع أن نخطو أي خطوة إلى الأمام، بل تكون جميع أعمالنا وخططنا التنموية ارتجالية ومهدرة، وتحمل ميزانية للدولة أعباء مالية كبيرة بسبب غياب التخطيط المدروس المبني على دراسات وأبحاث لمشاريعنا التنموية. دول متقدمة، ودول تسارع الخطى للالتحاق بركب التقدم والتطور، في عصر الثورة المعلوماتية والتقنية التي نعايشها الآن في هذه الألفية الجديدة، وضعت نصب أعينها البحث العلمي، وكيف أنه يرشد أي ميزانية لأية دولة بالعالم، بل ويوجهها التوجيه الصحيح، فالبحث العلمي المستند على أرضية علمية سليمة وصحيحة هو الأساس في معالجة السلبيات، وعدم تكرارها، والبناء على الإيجابيات وتدعيمها عند وضع الخطط التنموية المدروسة للدولة. نعود إلى مشاريع الميزانية التنموية لنجد أن التعليم الذي يقاس به تقدم الأمم، حصل على نصيب الأسد في هذه الميزانية، وكذلك ابتعاث الطلاب للخارج كأهم رافد من روافد دعم المؤسسات التعليمية، والقطاعين العام والخاص بالكفاءات المتعلمة تعليمًا راقيًا، والمدربة، وهذا يعود إلى دعم ملكنا وحبيبنا ووالدنا أبي متعب لهذا المشروع الجبار، وحنكته وحكمته وبُعد نظره، في «برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث»، انطلاقًا من حرصه -حفظه الله- على أبنائه، وأن النهوض بأي مجتمع يعتمد -بعد الله- على سواعد أبنائه المتعلمين تعليمًا راقيًا وصحيحًا من منابع العلم الرئيسة في أي دولة متقدمة في العالم. كما أن قطاعات الصحة والخدمات الأمنية والاجتماعية والبلدية، والمياه، والصرف الصحي، والكهرباء، والطرق، والتعاملات الإلكترونية، والزراعة، والنقل، وغيرها... هي قطاعات لا تقل أهمية عن قطاع التعليم والبحث العلمي، والتدريب والابتعاث، وبالتالي أخذت نصيبها من ميزانية الخير. أمّا الدَّين العام والمتراكم على المجتمع منذ سنوات طويلة، والذي يؤرقنا جميعًا، ولو أنه دين داخلي -نحمد الله- وليس خارجيًّا، بدأ ينكمش ويتقلّص، حتى وصل إلى نحو (167 مليار ريال) مقارنة بمبلغ (225 مليار ريال) بنهاية العام المالي الماضي 1430/ 1431ه (2009م)، كما أشارت إليه وزارة المالية في تقريرها عن الميزانية. ولكن يتبقى لدينا مشكلة أزلية «عويصة»، تتمثل بتنفيذ تلك المشاريع التنموية، والتي دائمًا نسمع بتعثرها، وعدم تنفيذها في الوقت المحدد، وهذا يعود إلى عدم وجود آلية عملية سليمة للتنفيذ، بما فيها الإشراف والمتابعة والرقابة الشديدة، ما أدى إلى العشوائية في ترسية المشاريع، بل إن جاز لنا التعبير الاحتكارية في تنفيذ تلك المشاريع على مؤسسات وطنية وشبه وطنية محدودة، وهي تعد على الأصابع بسبب تقلص المؤسسات الوطنية، بل وإغلاقها لعدم استلامها لمستحقاتها السابقة، وتخوف غيرها من الدخول في تنفيذ تلك المشاريع، والدخول في مديونية مع البنوك، ممّا جعل تلك المؤسسات الوطنية المحدودة، التي أشرنا إليها سابقًا، أن تدخل المنافسات لترسية المشاريع عليها، مرتاحة البال وبكل اطمئنان، ممّا أدّى إلى تكدس تلك المشاريع لديها، وتعثرها وعدم تنفيذها في أوقاتها المحددة، وإن نفذت فإنها تنفذ بمواد خام رديئة جدًا، وبأثمان مرتفعة، وعيوب هندسية وتقنية لا تُعد ولا تُحصى. كما أن السبب الآخر في تعثر مشاريعنا التنموية ورداءة التنفيذ، يعود إلى أن تلك الشركات تسند تلك العقود بالباطن بأسعار أقل جدًا، إمّا إلى شركات محلية صغيرة لا تملك الخبرة، أو شركات وطنية تستعين بشركات أجنبية، وإذا كان هذا هو الحال، فإنه لكي نخرج من هذه القوقعة والتعثر في تنفيذ المشاريع التنموية، وفق المواصفات العالمية وفي الوقت المحدد، فإنه لابد من الاستعانة بالشركات الأجنبية الرائدة في مجالات البنى التحتية، حيث أصبح مطلبًا ملحًّا للقضاء على رداءة التصميم والتنفيذ من قِبل شركات وطنية، أعطيت الفرصة والدعم من قِبل الدولة، ولم تقم هي بالتنفيذ، بل تسندها إلى شركات أقل، وبالتالي فإن وزارة المالية مطالبة بالاستعانة بشركات أجنبية لها سمعتها في مجالات المشاريع التنموية، وتعميمها على المصالح الحكومية.. والوزراء بدورهم -ومن تحتهم من المسؤولين التنفيذيين- عليهم مسؤولية تنفيذ بنود الميزانية في كل مصلحة مسؤولين عنها التنفيذ الأمثل، فالتوجيه السامي الكريم من قِبل الملك عبدالله -يحفظه الله- واضح وجلي عندما وجه الوزراء بعبارته الشهيرة، وبالكلام المختصر المفيد ما لكم عذر، فالمال متوفر، وما عليكم إلاّ التنفيذ والإخلاص فيه، وهذا هو عشمنا دائمًا بوزرائنا ممّن اؤتمنوا على المال العام، أن ينفذوا التوجيهات السامية الكريمة بكل وطنية، وبكل إخلاص وأمانة ونزاهة، فهم أولاً وأخيرًا أبناء لهذا البلد، وضعوا من أجل خدمة وطنهم ومواطنيهم، وما نأمله منهم متابعة المشاريع التنموية الطموحة، وأن لا يسمحوا بتعثر أية مشاريع، أو أن تكون رديئة التنفيذ في المستقبل. وفي النهاية، تظل ميزانيتنا ميزانية خير ومتوازنة، والشكر لمن قام بإعدادها الإعداد المتميز، ولا تحتاج -كما أسلفنا- إلاّ للتنفيذ عن طريق شركات عالمية لها سمعتها حتى لا تتعثر مشاريعنا، وتظل حبرًا على ورق، هذا ما نتمناه. [email protected]