منذ ما يزيد على ربع قرن تقريباًَ استوقفني أمر أراه جديراً بالدرس والبحث والتحليل، وهو التجاذب والصراع الضمني بين الأجناس الأدبية في المملكة وتبادل الأدوار بين المبدعين في الحضور والتأثير، فلقد كان تأثير الشعر في المحافل والصحافة والدرس العلمي الأوضح والأظهر، وأفرز ذلك تهافت عدد ممن لا يملكون الموهبة للظفر بلقب " شاعر"، ونتج عن ذلك دواوين مصنوعة لا قيمة لها، ثم قام مجموعة من ذوي النفوذ في الصحافة والصفحات الثقافية بزحزحة الشعر عن عرشه بتسويق القصة القصيرة والاحتفاء بها، وترتب على ذلك قيام عدد من دور النشر والأندية الأدبية بطباعة المجموعات القصصية، وامتدت هذه الحظوة للقصة في منافسة قوية جداً للشعر حتى عام 1415ه/1994م عندما صدرت رواية " شقة الحرية" لغازي القصيبي رحمه الله إيذاناً بتحول كبير في مسار الأجناس الأدبية في المملكة، وترتب على ذلك انحسار الشعر والقصة القصيرة في المملكة، والبدء بمرحلة انتشار وازدهار غير مسبوق للرواية، وهي الجنس الذي كان المنجز فيه لا يتعدى أرقاماً محدودة. ومن هنا فقد أصبح هناك تراجع واضح للشعر، وأضحى صدور الدواوين محدوداً بالقياس إلى المرحلة السابقة التي كانت تصدر فيها الدواوين تباعاً. أقدم هذه التوطئة الطويلة نوعاً ما احتفاء بديوان صدر مؤخراً (2010م)، وهو " نسيان يستيقظ" للشاعر الدكتور عبدالله بن سليم الرشيد، وهو الديوان الرابع له، في حين أن ديوانه الأول " خاتمة البروق " صادر عام 1413ه/1993م، والديوان الجديد يضم قصائد كتبت في المدة من 14191430ه، ويغلب على الديوان الهم السياسي، ولم يخلُ من بعض الهموم الذاتية والاجتماعية، ومما استوقفني من القصائد " تعليل واقعي للصمت العربي"، وجمالها يكتمل بقراءتها دون نقصان، ولكنني مضطر إلى اقتطاع جزء منها، وهو قوله: يقول الرواة ضروبٌ من الوجع اليعربي استحالت ركاماً أفاق عليه الصغار وشاخوا ومازال يُنبتُ في كلِّ يوم سوادا ****** (فعولن فعولن) دعوني أدندن بكل تفاعيل شعري بكل تفاصيل قهري والشاعر ممن يملك أداة ساخرة موجعة، واقرأ إن شئت قوله عن الثقلاء تحت عنوان " جبال الطين": ويدخلون من ثقوب البابْ لكنهم لا يخرجونْ إلا إذا هدّمتُ كل أضلعي والبابَ والجدرانْ .................................. ................................ ما ألطف الذباب! وإذا كان المؤلفون درجوا عادة على ملء فراغ الصفحة الأخيرة بأقوال تثني على نصوصهم، وخرج عن هذا السياق غازي القصيبي نوعاً ما حين أورد أقوالاً في الثناء عليه ونقده في الوقت نفسه وأثبتها على الغلاف الأخير لروايته " شقة الحرية"، فإن عبدالله الرشيد يفاجئ القراء بشيء غريب غير مألوف وغير متوقع حين وضع في الصفحة الأخيرة نماذج من بعض الآراء في نقد شعره تحت عنوان " مما قيل في ذم شعره"! وليته سار في فلك غازي، فلربما كان ذلك أدعى للاعتدال، فلا إفراط ولا تفريط، والنص له قادح ومادح..، ولكنه أراد أن يكون شعره كبش فداء يتوصل من خلاله إلى نقد مبطن قاس لكل شاعر يضع ثناء الآخرين عليه في الغلاف الخلفي لديوانه!! [email protected]