يُحكى أن نجارًا طلب من رئيسه أن يتقاعد بعد عمر حافل بالإنجازات؛ فحزن الرئيس لمفارقته، وقال له: «لا مانع، ولكن لا بد أن تُكمل بناء البيت الأخير ومن ثم تتقاعد». وافق النجار، وبدأ في شراء الألواح ومواد البناء، لكنه قد مَلَّ عمله؛ فاشترى موادَّ أقل جودة من تلك التي كان يشتري من قبل، وركَّب ألواحًا رديئة الصنع ونوافذ غير جميلة ودهانًا غير ساطع.. كل ذلك ليُنهي عمله بأسرع وقت ويتقاعد. فلما أنهى بناء البيت ذهب إلى رئيسه ليسلِّم مفتاح البيت مرفقًا به طلب تقاعده. هنا قال له الرئيس: «هذا البيت هو مكافأتي لك على سنوات عملك وإنجازاتك التي قدمت سلفًا». دُهش النجار، وقال: «ماذا، مكافأتي؟». فسأله الرئيس: «ماذا بك؟». قال: «لا شيء، شكرًا». ومضى محبطًا يتفكر. سألته زوجته: «ما بك؟». قال: «لو كنتُ أعلم ذلك لاخترت من كل شاردة وواردة أفضل ما يليق ببيت العمر هذا». فقالت له: «ولِمَ لمْ تفعل؟». قال: «كنتُ أبني البيت كردة فعل لأحصل على التقاعد لا كمبادرة أتفنن فيها وأتقن صنعها». في حياتنا اليومية نقدِّم أشياء ونقوم باختيارات حياتية لفظية وفكرية وخطابنا الفكري جزء رئيس لا يُستثنى من هذه الخيارات. حيث يفتقرُ بعض المفكرين إلى واقعية الخطاب وأدبياته؛ فمن غير المستساغ أن يُصدر البعض ألفاظًا وخطابًا غير لبق في حين أن الآخرين ينافسونه في اجتذاب الجمهور بلباقة ولياقة عالية..! ولو تساءلنا بتجرُّد: «إلى مَنْ سيستمع الجمهور؟».. فلا عجب إنْ علمنا أنَّ النفس البشرية جُبلت على حب الجميل، ومن الجميل جميلُ القول وجميل الهجر والصمت.. قال سبحانه وتعالى: {وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (المزمل - 10). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت...» الحديث. (في صحيحَيْ البخاري ومسلم). لو أن كل نجار أراد أن يبني بيتًا له للسكنى لاختار من المواد أو الألفاظ ما يبني فكرًا جميلًا تسكن النفس إليه وتطيب الحياة به. إن حاجتنا الحقيقية تكمن في المبادرة، والمبادرة كسب دنيوي وأخروي؛ ولهذا اختصَّ اللهُ المبادرين من الصحابة -رضوان الله عليهم- بأن أسماهم {..السابقون الأولون..}، وبشرهم بالجنة، هم ومَنْ اتبعهم بإحسان. ومن الاتباع أن يبادر المفكرون بمشروع فكري يلامس حاجات الجمهور بأسلوب لبق جميل لا ردة فعل قَلَّ أن تخلو من ثورة الغاضب؛ فتكثر الشوارد؛ فتتطاير وتذهب ببعض من يتلقاها. وختامًا: قد قيل: «زلة لسان أعظم من زلة قدم». وفي واقع الإسلاميين الكويتيين أسوة حسنة حين بادروا بمشروع ركاز (حملة لتعزيز الأخلاق)؛ فكم حققوا من المكاسب التي لم تحققها الجدليات. إنَّ ما نحن بصدده هو الفكر والمبادرة معًا؛ فكلاهما حاجة ملحة. وأتمنى ألا يُبنى لنا بيتٌ كبيت النجار المتقاعد؛ فيغرق الخطاب الإسلامي في مسلسل لا ينتهي من ردود الأفعال. وما أجمل قول الإمام الشافعي: قالوا سكتَ وقد خوصمتَ قلتُ لهم: إنَّ الجوابَ لبابِ الشرِّ مفتاحُ والصمْتُ عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفٌ وفيه أيضًا لصونِ العرضِ إصلاحُ فهد عطيف