من البديهيات في عالم الصحافة أن وظيفتها الأساسية والأهم هي المراقبة، لكل ما يجري داخل المجتمع سواء أكان من سلطاته الأساسية المستقلة عن بعضها: تشريعاً وقضاء وتنفيذاً، أو ما يجري على الأرض من واقع اجتماعي يحتاج إلى إصلاح، لذا شاعت تسمية الصحافة بأنها السلطة الرابعة، لتنضم إلى السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية، والغاية حتماً هي تحقيق مصالح الأمة والوطن، ولهذا فكلما ارتقت الصحافة فناً وأداء كلما تحقق للمجتمع الذي تراقبه مزيداً من القدرة على التقدم والنهوض، وكل من درس التاريخ وأحوال الأمم اتضح له هذا، وعلم يقيناً أن أي بلد ليس فيه صحافة فاعلة هو إلى الجمود والتأخر اقرب، فما نهضت أوروبا وحققت هذا التقدم، الذي ساد الحضارة المعاصرة إلا بعد أن وجدت فيها الصحافة، فالنقد النزيه هو البوابة الرئيسة لكل إصلاح يتناول الأوضاع المختلة والمتردية، وما يعتري الأداء من أخطاء وإهمال، فإذا لم تتح له الفرصة للظهور فمعنى هذا بكل صدق أن يبقى كل هذا دون كشف، فإذا استفحل لم يعد بالإمكان تجاوزه إلا عبر خسائر فادحة، ولعل في تجارب التنمية في بلادنا ما يشير إلى ذلك، عندما لم نستطع انتقاد خطوات العمل التنموي بصراحة، ولم نبحث عن الأخطاء التي اعترت هذا العمل الأساسي للنهوض بالوطن، واكتشفنا فيما بعد أن سائر مدننا تكاد أن تكون دون بنية أساسية، ورأينا عند تعرض بعضها لمطر عدة ساعات ما أحدث فيها من كوارث، والصحفي والكاتب الوطنيان المخلصان إذا وجها نقداً لأي من مجالات العمل الوطني فإنما يستهدفان بنقدهما أن يكون عملاً متقناً، يحقق الغايات التي من أجلها شرع وبوشر فيه، وليحقق مصالح الوطن والمواطنين، وصحافتنا السعودية عند نشأتها حينما ظهرت جريدة صوت الحجاز، ثم تلتها البلاد السعودية، وصاحبتها فيما بعد الصحف التي أنشأها أفراد أفذاذ من أبناء الوطن يخلصون لله ثم الوطن، كان مستوى النقد راقياً وجريئاً، حتى إننا عندما افتقدناه في زمن المؤسسات الصحفية، وما فرض من قيود على الصحف آنذاك، وحل بها رقيب رسمي يجيز ما ينشر، ثم لما ألغى هذا الرقيب، الذي كانت رقابته لما ينشر سابقة على النشر، فرضت الرقابة اللاحقة، وعهد بعمله لرؤساء التحرير ومن ينيبونهم لإجازة مواد الجريدة، مما أنشأ لوناً من الرقابة الذاتية، التي تفوقت أحياناً على الرقابة الخارجية الرسمية، وحجبت ما لم تحجبه هذه الرقابة، فالخوف الذي يعتري الكتاب والمحررين، وهم يعدون ما سينشر في الجريدة، من المحاسبة بعد النشر، جعلهم يقلصون مستوى الحرية المتاحة لهم، وجاء زمن أصبحت فيه الصحف تصدر وكأنها نسخة واحدة مكررة، لا يفرق بينها سوى الترويسة التي تحمل اسمها، ولم يعد أحد يثق بما ينشر فيها من أخبار أو آراء، حتى جاء الزمن الجميل المختلف، الذي أتيح فيه لحرية التعبير سقف مرتفع في عهد تولي شؤون البلاد من قِبَل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وفقه الله، مما رد للصحافة اعتبارها، وأتاح لها أن تمارس الدور الذي من أجله وجدت، ورأينا تطويراً حثيثاً يتحقق في كل وسائل الإعلام في بلادنا، ولعل هذه الحرية التي اتسع نطاقها تشجع أن يلتحق بساحتها من لا يحسن استعمال هذه الحرية فيسيء التعبير عنها، فليس كل من تعامل مع الصحف تحريراً وكتابة هو على قدر المسؤولية ليتعامل مع هذه الحرية بما يعود على الأمة والوطن بما فيه الخير والصلاح، ولكن ظهور كتابات من هذا اللون وغير مسؤولة في الصحف أحياناً، يجب ألا يكون سبباً في التسرع بالحكم بأن الرقابة بجميع صنوفها يجب أن تعود وأن تمارس تقييداً لحرية التعبير، فإن فرض القيود دوماً يغري بفرض المزيد منها حتى تلغى تماماً، وأنا على يقين أن وزارة الثقافة والإعلام اليوم ترعى هذا الزمن المختلف، الذي لم يعد فيه مكان للرقابة على وسائل الإعلام، أما محاسبة المتجاوز للأنظمة، والذي يتعمد نقداً مغرضاً بشكل جلي وواضح، فمحاسبته وقاية لحرية التعبير أن يستعملها من لا يقدر نفعها للأمة، ولعل مثل هذا ذي الغايات الرديئة الدنيئة هو النادر الذي لا يجب أن يكون وجوده سبباً لإلغاء حرية التعبير أو تقييدها، بعد أن اتسع نطاقها في صحافتنا وآتت ثمارها ولاشك، ونحن جميعاً يجب أن نتكاتف لحمايتها من أن يلحقها ضرر بفكر نشأ في ظل القيود، هذا ما نرجوه والله ولي التوفيق.