هناك نظرية صحفية قديمة تقول ما معناه: إن الخبر العادي لا يستحق أن تنشره الصحافة، أو تهتم به. وحده الخبر غير العادي هو الذي يستحق أن يحظى بالتغطية والاهتمام. وللتدليل على صدق هذه النظرية، طرح صاحبها مثالاً بسيطًا، لكنه جدّ معبّر. يقول صاحب النظرية الذي لا أذكر اسمه: إن حصول حادث عادي ومتوقع، كأن يقوم كلب مثلاً بعضّ رجلٍ في أحد الأماكن العامة، لا يمكن أن يصنّف ضمن خانة الأخبار التي تهتم الصحافة بتغطيتها. لكن لو حدث العكس، وقام الرجل بعضّ الكلب، فإن هذا ما يستحق أن يُنشر فعلاً. هذه النظرية رغم المثال الفج الذي استخدمته، واستندت إليه، تتضمن ردًا مقنعًا، وربما مفحمًا، على كل مَن يستنكر قيام الصحافة، أو كتّاب الأعمدة والرأي، بالتركيز فقط على الظواهر السلبية في الحياة العامة. على سبيل المثال، فإن منطق الأمور يقتضي أن يقوم أي شخص مسؤول بواجبه الذي تحتمه عليه مسؤولياته. هذا هو الطبيعي والمنتظر، ولأنه كذلك فإن حصوله لا يمكن أن يثير انتباه الناس، ولا يمكن أن يدخل ضمن نطاق اهتمامات الصحافة التي تعتبر عين المجتمع، وأداته لممارسة الرقابة الذاتية على أداء الأجهزة والجهات والأفراد المنوط بهم خدمة الناس. لكن لو حدث مثلاً وقام قاضٍ ما بإصدار حكم لا ينسجم ومبادئ العدالة، ولا يستند إلى منطق قانوني أو شرعي، أو حتى عرفي، فإن دور وواجب ومهمة الصحافة تحتم عليها تغطية الموضوع، ومناقشته مناقشة تفصيلية؛ ليقف الرأي العام على تفاصيل الحادث، أو القضية موضوع النقاش. القضايا الخلافية بطبيعتها هي التي تجذب القارئ، وتحظى باهتمام الرأي العام، أمّا القضايا التي لا خلاف حولها، فلا تستدعي النشر، لأن المتفق عليه لا يمكن أن يثير نقاشًا، أو حوارًا، أو جدلاً من أي نوع. الصحافة والكُتّاب الصحفيون عمومًا يشتغلون على الشذوذ، لا على القاعدة. ليس هناك مبرر واحد يدفع الصحافة إلى إطراء مَن يقوم بواجبه على الوجه المطلوب. هذه هي القاعدة، وهذه هي طبيعة الأمور، والكارثة فعلاً هي أن يتحوّل الصواب إلى شذوذ يستدعي الإشادة به إعلاميًّا. عندما ترى الصحافة تشيد بالصواب، فاعلم أن الشذوذ تحوّل إلى قاعدة. [email protected]