لا أدري لماذا تتداعى إلى ذهني كلما فكرت بالشأن العراقي المعاصر، وتأملت مشهده السياسي والاجتماعي، فكرة “لعنة الفراعنة”، التي كنت وما زلت مشغولًا، بحكم تخصصي القديم بفلسفة اللاهوت، بالبحث في منشئها وجوهر معناها الفلسفي، تلك اللعنة التي أشار إليها مضمون النقش الفرعوني على مقبرة توت عنخ آمون الذي اكتشف عام 1922م الناص على أنه:”سيَذبَح الموت بجناحيه كل من يحاول أن يُبدد أمن وسلام مرقد الفراعنة”، حيث تقول الرواية بأن سلسلة من الحوادث الغريبة، التي بدأت بموت كثير من العمال القائمين بالبحث في المقبرة قد تم اكتشافها، وهو ما حير العلماء وجعل العديد منهم يعتقد بفكرة “لعنة الفراعنة”. والسؤال الذي يراودني دائمًا هو: هل أصيب العراق المعاصر بلعنة مماثلة يمكن تسميتها ب “لعنة الديمقراطية”من بعد سقوط حكم الرئيس السابق صدام حسين ؟ الذي لا يختلف اثنان على سوء سياسته واستبداده المشين لأرض العراق وإنسانه. إنها صورة مُحيرة يقف أمامها المراقب عاجزًا عن فهم ما يدور في العراق خلال الوقت الراهن، إذ وفي اللحظة الذي كنا نتوقع أن ينطلق العراقيون من بعد تحررهم من قيد الحكم الفرد إلى آفاق مستقبلية زاهرة، من بعد إحساسهم بمرارة الظلم، وعجز التخلف، وتأثير القمع السلبي على كل مناحي الحياة، تدعمهم للوصول إلى تلك الآفاق المشرقة ثقافتهم العالية، وخلفيتهم الحضارية العريقة، ليؤسسوا مجتمعًا متطلعًا لمستقبل مستقر ومتطور تسوده الألفة والمحبة، وتعلو قسماته التسامح والحرية المنضبطة، وتتشكل في أحضانه أبجديات النظم الديمقراطية الحديثة، المستندة إلى مفاهيم العقد الاجتماعي والتداول السلمي للسلطة بين مختلف الفرقاء السياسيين؛ نفاجأ بانهيار كل ذلك، وبتلاشي تلك الآمال مع أدراج الرياح، ليغرق العراق منذ اللحظة الأولى لسقوط الحقبة الماضية في صراعات طائفية عرقية بغيضة، دمرت في أشهر بسيطة كل مكتسبات الحضارة العراقية عبر آلاف السنين، ونتج عنها تطاير أشلاء آلاف مؤلفة من أبناء وبنات العراق الأبي، ليتحول الرافدين في لمحة بصر إلى كومة من الأجساد والتراب المهين، يلفح بلهيبه المحترق وجوه كل الغارقين في وحله، التائهين في روافده المشتتة. إنها لعنة الديمقراطية التي أخشى أن يكون العراق قد أصيب بها، ذلك أن الفعل الديمقراطي بكل ما يحمله من قيم ومثل فلسفية عليا، ليس مقصورًا على مظاهر شكلية تختزلها أسماء مؤسسات سياسية وحسب، بل هو روح زاخر بالمحبة والتسامح والتسامي، يتحتم على كل فرد ممارس أن يتشبع به، وهو أيضا إدراك عال لمفهوم المصلحة الذاتي، ترتفع بصاحبها عن التيه في تفاصيل تافهة ضيقة، تحجب عنه الانتباه إلى ضوء الشمس وجمال المنظر الكلي للمشهد السياسي، الذي يكون فيه الفرد أحد مكونات جمالياته الرئيسة بوجه عام. من هذا المنطلق، وبهذا الحس العالي من الوعي بالعمل الديمقراطي الحقيقي، جاءت دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله لشعب العراق وقياداته السياسية للاجتماع بعد انتهاء موسم حج هذا العام بمدينة الرياض وتحت مظلة الجامعة العربية، لإيجاد حل يكفل إنهاء الأزمة السياسية المعاصرة، التي أعاقت تشكيل الحكومة العراقية طوال الأشهر الماضية. ومن هذا الوعي بمفاهيم وقيم الفعل الديمقراطي انطلق نداء السلام، من مهبط السلام ومهد رسالة الحرية والتسامي، إلى كل أبناء العراق الشرفاء، ليُعملوا العقل ويَستنهضوا الهمم حتى يحافظوا على مكتسبات أرضهم وحقوق أجيالهم القادمة، للعيش بحرية وكرامة وإباء وعزة. ومن ذلك الإحساس العالي بقيمة المسؤولية، امتدت يد المملكة العربية السعودية بكل صفاء ومحبة، ووعي وإدراك، لمساعدة شعب العراق حتى يحافظ على وحدته واستقراره، ويخرج من محنته السياسية المعاصرة، وينتصر على ضعفه بكل قوة واقتدار. فهل سيعي أهلنا في وادي الرافدين مرامي هذه الدعوة النبيلة؟ ويضعوا بإرادتهم ووعيهم حدًا لهذه اللعنة الممقوتة؟