هكذا كان يقال لهم، وبه ينادون، كما ذكر ذلك مؤرخو البلد الحرام كالفاسي وغيره. وهو منصب تشريف بتكليف، فكل تفضيل يلحقه تكليف بقدره، وقد فَضُل أهل مكة بسكنى بلد الله الحرام، وجوار بيته المحرم، فهم أهل بيته وحرمه.. نعمةٌ تستحق الشكر. وإن مما أمر به أهل الله من التكليف: قيامهم بطهارة البيت من كل رجس ونجس. وقد أمر الله تعالى بها منذ حرم مكة، وكتب على إبراهيم وإسماعيل بناء البيت العتيق، قال:(وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود). (وإذا بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئًا طهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود). وأصول التطهير أربعة، كلها ذكرت في النصوص المعظمة: ففي السنة العاشرة: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر الصديق أميرًا على الحج، وأن يؤذن في الناس: (ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان). البخاري فهذا أصلان، أحدهما: تطهير البيت من الشرك؛ وهو نسبة شيء مما اختص الله تعالى به، من العلم والملك والقدرة، والتعبد له، والأسماء والصفات إلى أحد من المخلوقين، وممارسة ذلك عند البيت، أو في الحرم، أو في جواره.. فيطهر البيت منه، ولا يمكّن أحد منه. والثاني: تطهير البيت من الفواحش، من العري ومقدماته؛ من تبرج وسفور، إلى الفاحشة. وقبل أن يمنع النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك، كان البيت محفوفا بالأصنام التي تعبد من دون الله تعالى، وغير الحمس (= قريش) إذا لم يمنّ عليهم قرشي بثوب، وإلا طافوا عراة، يقولون: "نطوف كما ولدتنا أمهاتنا، فتضع المرأة على فرجها النسعة، وتقول: اليوم يبدو بعضُه أو كلُه وما بدا منه فلا أحله" فهدم الأصنام وطرحها في فتح مكة، عام ثمانية، وهو يتلو قوله تعالى: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا). وكانت ثلاثمائةٍ وستين صنمًا. ونادى بمنع المشركين والعراة من البيت، فتطهر البيت من رجسين. ثم جاء في حجة الوداع فخطب في الناس، فقال: “حَرَّمَ اللَّهُ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدِي أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ” البخاري. وهذا أصلان آخران، فتمت الأربعة.. أحدهما: تعظيم القتل بمكة، ومنع استباحة الدم فيها، فلا يحل غزوها، وقد كان الرجل في الجاهلية، وهو كافر مشرك، يلقى قاتل أبيه في مكة، فلا يعرض له. ويلحق بهذه الطهارة الامتناع من مقدمات القتل: السب والشتم، والإهانة، والخصومة، والأذى بأنواعها، فكلها تفتح بابًا إلى الجراحات في العين، السن، والأذن، والعظام، وهذه أبواب سفك الدم. والآخر: الكف عن أموال الناس، فالنبي عليه السلام ينهى عن التعرض لشجرِ، وعشب، وحشيش الحرم وصيده، وهي مباحة خارجه، والناس شركاء فيه.. حرمت في مكة.. فتحريم ما ليس للإنسان فيه حق، كممتلكات الناس، أولى وأحرى. حتى اللقطة لا تحل أبدا، بل تلتقط للحفظ ليس إلا، فمال لا يعرف صاحبه لا يحل، فكيف بمال يعرف صاحبه، وقد صانه فجعله حزرًا، يأتي من يسرقه أو يأخذه بخديعة؟!!. فالضرورات الست منصوص على حفظها حفظًا مؤكدًا بالخصوص في بلد الله الحرام: - في تطهير البيت من كل مظاهر الشرك، حفظ للدين. - في تطهير البيت من سفك الدم، يحفظ: النفس، العقل، والنسل. - في تطهير البيت من الفواحش ومقدماته، يحفظ العرض. - في تطهير البيت من الاستيلاء على أموال الناس، حفظ المال. ومن الطهارة حفظ البيت من الوسخ والقذارة، فيأثم المسلمون لو قصروا في ذلك. ويزداد واجب التطهير كلما قرب من البيت، فآكده وأعظمه مسجد الكعبة، فيخلّص من كل أنواع النجس والرجس والوسخ، ثم يتلوه في الوجوب كافة الحرم إلى حدوده، ثم يتلوها جوارها، لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا). فقال: (فلا يقربوا)، ولم يقل: (فلا يدخلوا)، فالتطهير يعم جوار الحرم، ليس خالصًا إلى حدوده، بل يكون إلى خارجه، بالقدر الذي يعد فيه الوالج إليه قريبًا منه. وقد كتب الله تعالى للعمل الصالح في مكة أجرًا مضاعفًا، فالصلاة في الحرم بمائة ألف صلاة، وسائر الطاعات فيها أحسن من غيرها، كما كتب السيئة على من همّ بها، فإذا واقعها عظمت عليه العقوبة، وهذان طريقان من الطرق الإلهية في تطهير البيت. فأهل مكة – أهل الله - إذا علموا أن ثواب الصالحات مضاعفة، حملهم على الزيادة، وبها يصرف المرء عن السيئة، فكلما عظمت حسناته قلت سيئاته، فيقل الرجس والنجس. وإذا علموا أن الهم بالمعصية سيئة مكتوبة، وأن فعلها في الحرم عظيم، كفّوا، قال تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم). فسر ابن مسعود الآية، بأن من همّ بالمعصية في مكة، وهو في مكان أبعد من عدن، أذاقه الله العذاب الأليم. كل صاحب نعمة، تعظم مثوبته إن شكر، أو عقوبته إن كفر. فإن زادت النعمة زاد واجب الشكر، وعظمت العقوبة بالكفر. فهذه قاعدة شرعية وعقلية. فضل الله بني آدم على سائر الخلق: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلًا). فضلوا على الحيوان، والنبات، والجماد، فإن أحسنوا فلهم، وإن أساءوا فعليهم، وتلك المخلوقات ليست إلا الفناء. وفَضّل المسلمين على الكافرين بالإيمان، فإن ثبتوا على إيمانهم أثابهم الجنة، وإن ارتدوا جعل لهم من العذاب فوق ما على كافر؛ لم يعرف الإسلام يومًا. وفضّل أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال لهن: (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرًا * ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحًا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقًا كريمًا). وفضل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعظم ثوابه، حتى لم يلحق به أحد، وقال له: (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلًا * ولولا أن ثبتناك لقد تركن إليهم شيئًا قليلًا * إذًا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرًا). ورمضان فضل زمانًا، فتضاعفت الحسنات فيه، وعظمت السيئات، حتى كانت كفارة الذي نكح أهله فيه، ضعف الشهر صيامًا، يؤديه في وقت فطر الناس. كذلك البقاع المكرمة المفضلة المحرمة مثل مكة، لا تخرج عن هذا القاعدة.. قال الله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة). يخلق العالي والسافل وما بينهما، ويختار من خلقه من يقدمه ويعليه، وفي هذا بيان للعظمة الإلهية، بالقدرة والإرادة التامة.. فلو خلق العالي وحده، لقال الملحد: عجز عن خلق السافل. ولو خلق السافل وحده، لقال: هو عاجز عن خلق العالي. فخلق كل شيء، وأتقن كل شيء: (الذي أحسن كل شيء خلقه). ثم.. ما كل ما خلقه اختاره ورضيه، بل منه ما سخطه وكرهه كالفواحش والإثم والبغي والشرك وفاعلها، والأحكام الخمسة بينت على هذا: فالواجب رضيه، كذلك المستحب. والمحرم كرهه، والمكروه لم يقبله وأعرض عنه. فلو جعل كل خلقه عنده مرضيًا، لقالت الملاحدة: عجز عن خلق الأضداد: الخير والشر، وما يحب وما لا يحب. أو قالوا: لا يستطيع إلا أن يرضى، ولا يتأتى منه غضب أو انتقام أو سخط فحسب، لقالوا: لا يستطيع إلا أن يسخط ويغضب، ولا يتأتى منه الرضى. فكماله سبحانه، بما وصف به نفسه: يرضى ويغضب..ينعم، وينتقم.. يثيب، ويعاقب. خلق الخلق في تفاوت، ثم بُني على ذلك تفاوت درجاتهم، وواجباتهم، ووحقوقهم.. فكيف يساوي بينهم في الرضى والقبول، وفي التفضيل؟!. أما اختياره واصطفاؤه ابتداء، فتلك إرادته، وهو:(لا يسأل عما يفعل وهم يسألون).