المقولة الشائعة: (السياسة فن الممكن) التي يتعامل معها المشتغلون والمهتمون بالسياسة، وكأنها حكمة مفتاحية يمكنها تقديم تفسير لكل ما يجري في أروقة السياسة، هي مقولة ناقصة.. والاستشهاد بها يشبه الاستشهاد بالآية القرآنية الكريمة: (ولا تقربوا الصلاة ....). السياسة هي فن استخدام الممكن في سبيل تغيير الواقع. كل السياسيين الذين يمتلكون رؤية ومشروعًا، يخططون لتغيير الواقع نحو الأفضل. ولو ارتهن الساسة إلى الواقع (الراهن)، وخضعوا لمعطياته، لما تمكن أي سياسي من المساهمة في تحقيق ولو قدرًا بسيطًا من التقدم لمجتمعه. الفكر السياسي نفسه انطلق في مختلف مراحل تطوره، من الحاجة إلى ترويض الواقع حتى لا يكون معوقًا أمام أية محاولة لتغيير حياة البشر نحو الأفضل. القبول بالواقع (الراهن) والخضوع لمعطياته والارتهان لآفاقه المحدودة، هو انهزامية لا واقعية كما يدّعي البعض. وعندما تطغى الانهزامية على رؤية السياسي، وعندما تتمكن من إرادته، فإن هذا يعني أن السياسي لم يعد قادرًا على خدمة أمته. موقف النظام الرسمي العربي من القضية الفلسطينية، ومن مسألة السلام مع العدو الإسرائيلي، ومن السيطرة الأمريكية على مقدرات المنطقة والهيمنة العارية على قرار دولها، هو أحسن مثال على حالة الانهزامية عندما تبلغ ذروتها. والانهزامية بطبيعة الحال، لا يمكن أن تكون مشروعًا للإنقاذ أو قراءة واقعية لمجريات الأمور. الانهزامية تعني فقدان إيمان السياسي بقدراته وقدرات شعبه وإمكانات بلده، لتغيير ظروف الواقع نحو الأفضل. الواقعية لا يمكن أن تبرر الرضوخ لإملاءات العدو فقط لوجود خلل في موازين القوى لصالح العدو. الواقعية تعني دراسة الواقع والعمل على سد الثغرات الموجودة داخله ومن ثم تغييره، بغية كسر الهوة الاستراتيجية التي تفصل بينك وبين العدو. شخصيًّا لا أصدق مشاريع السلام، لأن مَن يروجون لها بيننا لا يمتلكون أجندة حقيقية لتغيير ظروف واقعنا البائس. أنا مع خيار السلام إذا كان الغرض منه توفير المال والجهد لتحقيق تنمية سياسية واقتصادية كفيلة بنقل مجتمعاتنا إلى عصر الحداثة. أمّا الاستسلام فقط لمجرد أن العدو أقوى، فلا .. وألف لا. الواقعية تعني عدم تخطي قوانين الواقع لتغيير معطيات الواقع.