نقرأ كتابَ الله فتمرُّ بنا آيات ينبغي أن نتأمّلها ونتدبّرها. من تلك الآيات قول الله جلّ وعلا واصفا المؤمنين:( وَٱلَّذِينَ هُمْ لأمَٰنَٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رٰعُونَ). إذ وصف الله أهلَ الإيمان بأنّهم راعون لأماناتهم، حافظون لها، قائمون بمقتضاها حقَّ القيام. تلكم الأمانةُ التي عرضها الله على السماوات والأرضين والجبال، فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا، لا عصيانًا لله، ولكن إشفاقًا من حملِها، إلا أنَّ الإنسان حَملها لظلمِه وجهله (وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَٰنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) . ومفهوم الأمانة لا يقتصر فقط على تأدية الحقوق إلى أصحابها كما يظن البعض فيقصرون فهم الأمانة في أضيق معانيها، وهو حفظ الودائع، وحقيقتها في دين الله أعظم وأجل فهي تشمل جميع جوانب حياة المؤمن. لقد كان رسل الله عليهم الصلاة والسلام يُختارون من أعظم الناس طباعًا، وأزكاهم معادن. يتّصفون بالأمانة . فقد كان رسول الله قبل البعثة يلقب بين قومه بالأمين. كما دلّ خلق نبي الله موسى عليه السلام العفيف الشريف مع ابنتي شعيب على الأمانة حين سقى لهما: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يٰأَبَتِ ٱسْتَأجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَأجَرْتَ ٱلْقَوِىُّ ٱلامِينُ والأمانة هي شعور المرء بمسؤوليته في كل أمر يوكل إليه. وجوهر الأمانة يقتضي أن تكون النفس المتصفة بالأمانة محافظة على الفضيلة مع شدة الفقر ووحشة الغربة. لأن المحافظة على حقوق الله وحقوق العباد وأداءها على الوجه الأكمل يتطلّب خُلُقا لا يتغيّر بتغيّر الظروف والأيام. لقد أصبح زماننا زمان ضياع الأمانات باحتراف!!. وتبدأ قصّة ضياع الأمانة منذ أن توكل المسؤوليات في المناصب في المجتمع التي تتعلق بها مصالح الناس، لمن لا يقوم بأدائها بأمانة. فالصحيح ألا يُعيَّن فيها سوى الأقدر الأصلح، الحقيق به، الأكثر أمانة ومراعاة لمصالح الناس. لكننا للأسف نجد أن بعض من يعيّن فيها له معرفة بالمسؤول الكبير، أو له مصالح مشتركة مع من يؤيده!! ولو تأمّلنا حديث أبي ذر رضى الله عنه حين قال في الحديث الذي رواه مسلم: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب يده على منكبي، ثم قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة، إلّا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها). لو تأمّلنا ذلك.. لوقفنا على الكثير من الفوائد. منها أن صحبة أبي ذرّ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم تشفع له أن يحصل على ما طلبه من عمل. لأن القاعدة أن يوضع الشخص المناسب في المكان المناسب. يظن البعض أن الكفاية العلمية والعملية كافية لتولي المرء منصبا!! والحقائق تؤكّد أن ذلك لا يعني صلاح المرء لحمل الأمانة. فحديث أبي ذر رضى الله عنه يؤكّد أن للمناصب رجالها. ونبي الله يوسف عليه السلام حين رشح نفسه لإدارة المال، لم يذكر نبوته وتقواه، بل طلبها وهو يؤكّد جدارته بها لحفظه وعلمه بمسؤولياتها (قَالَ ٱجْعَلْنِى عَلَىٰ خَزَائِنِ ٱلأرْضِ إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ) وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدّث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكرِه ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال: (أين أراه السائل عن الساعة؟) قال: ها أنا يا رسول الله، قال:(فإذا ضيِّعت الأمانة فانتظر الساعة) قال: كيف إضاعتها؟ قال:(إذا وسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة). وإذا ما أردنا أن نعرف كيف يكون ضياع الأمانات.. وبيع الذمم.. فالشواهد الواقعية حولنا أكثر من أن تعدّ وتحصى. ليتنا.. لا ننتظر وقوع الكوارث لنتحرى وضع الشخص المناسب في المكان المناسب!!. ليتنا نُحاسب الجميع قبل وبعد تولّي المنصب ونتابع أرصدتهم وأرصدة أهل بيوتهم ليكون السؤال: من أين لك هذا؟ أسهل الطرق.. للوصول إلى من احترف بيع ذمته!! فسُوق بيع الذمم سوق لا وقت لها -مع الأسف- فهي منصوبة لكل من أراد بيع ذمته.. ولكل من لديه ثمن لها!! ولا حول ولا قوّة إلا بالله.