إن ثبت ما قيل عن تقرير صدر عن ديوان المراقبة وفيه أن 70% من الموظفين “متسيبون” في العمل، وتقرير هيئة الرقابة والتحقيق الذي قال إن 94% من الموظفين يتغيبون عن أعمالهم بشكل مستمر، اقول إن صحت هذه التقارير عن مصادرها المختصة، فدعونا هذه المرة ننظر للموضوع من جانب آخر، نقف بجانب الموظف، تطالب الأجهزة الرقابية بحضور وتواجد الموظف في مكتبه وعلى رأس العمل من السابعة والنصف وحتى الثانية والنصف، المهم هنا هو الحضور البدني، جسم الموظف هو المطلوب حضوره وتواجده، وليس إنتاجيته وإتقانه، هذه صورة (الموظف المسمار) الذي يطالب به ديوان المراقبة وهيئة الرقابة، وبغياب معايير الجودة والاتقان، ولا وجود لطريقة قياس إنتاجية الموظف في القطاع العام، هنا يتجلى الشكل الروتيني والتقليدي لمعرفة الانضباط الوظيفي، وهنا نقتل الرغبة لدى الموظف في تحسين مستوى الأداء، فالمهم هو هل حضر الموظف أم لا، وليس هل يؤدي واجبه ويتقن عمله. الشريحة العظمى والأوسع والأكثر والأكبر من الموظفين في القطاع العام الرسمي، تقع في المراتب من السادسة وحتى العاشرة متوسط الراتب هنا ثمانية آلاف (ماتوكل عيش) أمام التضخم ونار الأسعار وزمن (الحياة المفوترة) أو حياة الفواتير، إلى جانب غياب التحفيز والتشجيع على الإبداع، والمطلوب في مشهد أنظمة الوظيفة العامة هو الموظف الروتيني التقليدي المتقيد والمقيد، أضف إلى ذلك التجميد الوظيفي وانحسار الترقيات إلى حد وجود موظفين تمر بهم العشر والعشرون سنة بدون ترقية، مع ذلك تغيب في معظم الأجهزة الحكومية وضع قوائم للمهام والمسؤوليات التي يجب على الموظف القيام بها في زمن محدد، أي جدولة الأعمال المطلوب إنجازها، فأغلب الموظفين لا يدري ما هو المطلوب منه غدًا عندما يحضر اليوم، إنما هي رتابة تراكمية، تبدأ من رأس الجهاز ولا تنتهي بالموظف المستجد، توريد وتصدير وإحالات وشروح على المعاملات اليومية. التسيب الوظيفي ظاهرة سلوكية واضحة وبيّنة، لكن لماذا؟ لو يجد الموظف المتسيب (وسطًا) بيئة وجوًا يساعداه على (عشق) وحب عمله ووظيفته لأنتج وما تسيب، فالتوقيع على الحضور والانصراف بالقلم أو بالبصمة الكترونيًا أو ورقيًا هي (العبقرية) التي تتقنها غالب أجهزة القطاع العام، فلا توطين للإبداع ولا تحفيز للبحث عن أفضل الوسائل والآليات والأفكار الإدارية التي تنقل الموظف والعمل من الرتابة إلى التيسير والإتقان معًا لخدمة المستفيدين والمراجعين، لكن (عبقرية) الأنظمة والتعليمات، توقفت عند صناعة (الموظف المسمار) الذي يتواجد ولا يتحرك أو يتزحزح عن الكرسي طيلة الثماني ساعات، متى تتغير الأنظمة في البحث عن الموظف المنتج وليس المتواجد الحاضر بجسده وبدنه، ثم تبحث لاحقًا عن مرحلة الاتقان والجودة في العمل، إذا كان الاجر على قدر المشقة فهل يكون الحضور هو القدر الذي يصرف على اساسه الاجر اليومي، في الإسلام، الاعمال الصالحة معيارها الصواب والاخلاص والاتقان، وليس فقط الاداء والحضور الجسدي (الصلاة مثلًا) كذلك العمل المدني (الوظيفة) هي من الطاعات المدنية، والتسيب معصية مدنية، يجازى عليها المسلم، ولكن بشرط استيفاء كامل حقوقه الوظيفية، فكما أن النظام يوجب على الموظف الحضور والتواجد على رأس العمل والانضباط والقيام بمسؤوليات العمل، فكذلك، لا بد أن تؤدى حقوقه غير منقوصة، ومنها (تكافؤ الفرص في الترقيات والمهام والانتداب والدورات الداخلية والخارجية، والتأمين الصحي، والصلاحيات) في عالم الأجور وسوق العمل، الموظف السعودي الأقل إنتاجية وإتقانًا وإبداعًا، والأقل حوافز وراتبًا، وسلم الرواتب في القطاع العمومي يبدو الأقل في منطقة سوق العمل الخليجي، لم تعد الوظيفة العامة مصدر (أمان) نفسي ومعنوي ومادي أمام غول ارتفاع الأسعار وكلفة المعيشة، وغياب الحوافز والبحث عن طرق ووسائل تنشيط أساليب العمل أمام الروتين اليومي القاتل لكل حماس ورغبة في الإنتاج، ناهيك عن الإتقان، مع أننا نحفظ عن ظهر قلب الحديث الشريف، وهو قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه) أو (يحكمه) لكن القار في ذهنياتنا (النسق الثقافي العام) هو عكس ذلك تمامًا، تأخير الإنجاز، أو الإنجاز كيف ما اتفق، يُذكر أن بعض الإدارات قامت بحملة (حزم وعزم) للمتابعة وكشف التسيب، وتم فصل ومعاقبة المخالفين للأنظمة، فجاءت الضغوط اليومية من المواطنين لوقف الحملة. إن أنجع وأقدر علاج لظاهرة التسيب هو أن تتحول المتابعة والمراقبة من ثقافة التحضير اليومي لجسم الموظف إلى ثقافة تحضير ورصد ومتابعة الإنجاز وتهيئة وسائله كافة، وتتحول الوظيفة العامة من ثقافة الولاءات إلى ثقافة الكفاءات، فحين تهمش الكفاءات لحساب الولاءات، يخسر الوطن طاقة أبنائه وإبداعاتهم، وبالتالي الإفلاس التنموي، وهذا معناه الضمور لأوجه الاقتصاد، لقد أصبحت الأولوية في أغلب مؤسسات القطاع العام للولاء وليس للأداء، فيكون لسان الحال:(أنت جيد ما دام حضورك البدني وولاؤك مضمونًا، عندها تنال نصيبك من الغنيمة والحماية، ولا يهم بالطبع أداؤك مهما كان رديئًا، والويل كل الويل لمن يخرج عن الولاء مهما كان أداؤه متميزًا). عبدالعزيز علي السويد [email protected]