المراجعات الفكرية ظاهرة قديمة جديدة متجددة. عرفتها مختلف الثقافات والفلسفات والديانات والحضارات. وكثيرًا ما تكون هذه المراجعات الفكرية ظاهرة صحية ترتبط بالنضج الفكري والحيوية العقلية، والقدرة على إبداع الجديد. وهي في الدين والفكر الديني دائمًا تكون ثمرة الهدي الإلهي الذي يفيضه الله سبحانه على القلوب والعقول. وفي حياتنا الفكرية والثقافية والفنية الحديثة والمعاصرة للظاهرة بدأت منذ الاحتكاك بالأنموذج الحضاري الغربي، الذي جاء إلى بلادنا في ركاب الغزوة الاستعمارية الغربية الحديثة التي بدأت بالحملة الفرنسية، التي قادها بونابرت (1769- 1821 م) على مصر "1213 ه 1798 م. هذه الظاهرة هي "انبهار" قطاعات من مفكرينا ومثقفينا وأدبائنا وفنانينا بالأنموذج الحضاري الغربي وتقليده. وأخذه كما هو دون تمييز بين الصالح والطالح في هذا الأنموذج الفكري. والثقافي. والأدبي والفني ودون عرضه على ثوابتنا الحضارية وخصوصيتنا الثقافية و"المصفاة" التي تتمثل في منظومة القيم والأخلاق الإسلامية. ولقد عبر د. طه حسين 1306 - 1393 ه 1889 - 1973م ) في مرحلة انبهاره بالغرب وتقليده لمناهجه الفكرية عن هذا المذهب الذي سلكه هؤلاء المنبهرون، فقال: "إن السبيل واضحة بينة مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء، وهي واحدة فذة ليس فيها تعدد، وهي أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها ما يحب منها وما يكره، ما يحمد منها وما يعاب. ونذهب مذهبهم في الحكم ونسير سيرتهم في الإدارة ونسلك طريقهم في التشريع. ولقد سار مع الدكتور طه حسين في طريق هذا "الانبهار" أعلام كثيرون. منهم على سبيل المثال: الدكتور منصور فهمي باشا (1303 1378 ه 1886 1959 م) والدكتور محمد حسين هيكل باشا (1305 1375 ه 1888 1956 م) والشيخ علي عبدالرازق (1305 1386 ه 1887 1966 م) وسلامة موسى (1305 1377 ه 1888 1958 م). على تفاوت بينهم في درجات الانبهار والتقليد. لكن هؤلاء الأعلام الذين انبهروا بالأنموذج الثقافي الغربي من مفكرينا ومثقفينا وأدبائنا لم يكونوا نمطًا واحدًا. فقلة قليلة منهم هم الذين حولهم شيطان الغواية الاستعمارية إلى "عملاء حضاريين" مستغلًا في ذلك "المرض" الذي سكن قلوبهم بإزاء الإسلام وحضارته. ولقد كان سلامة موسى الأنموذج الفج للانبهار بالغرب والانسحاق أمام أنموذجه الثقافي، والمثال الصارخ للعبودية لكل ما هو غربي من الفكر إلى القيم إلى القبعة! حتى لقد جعل من ذلك الانبهار والتقليد "مذهبه" الذي يدعو إليه ويبشر به ويحيا له ويموت في سبيله! وكتب عن ذلك فقال: إن الرابطة الحقيقية التي تربطنا هي رابطتنا بأوروبا. وإذا كانت الرابطة الشرقية سخافة، فإن الرابطة الدينية وقاحة شنيعة. ونحن نريد اللغة العامية، لغة الهكسوس، لا الفصحى، لغة القرآن والتقاليد العربية. هذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي سرًا وجهرًا، فأنا كافر بالشرق، مؤمن بالغرب. ولقد كان سلامة موسى في هذا الغلو والشذوذ نمطًا فريدًا لا نظير له بين كتابنا في عصرنا الحديث.