أتذكّر في بداية هذا القرن الهجري، أني كنتُ أعمل رئيسًا لقسم الدراسات الإسلامية، في كلية إعداد المعلمين بمكة المكرمة، وقد زاد الضجيج آنذاك حول قضايا المرأة وحقوقها، وازدادت الدعوة إلى تضييق مجالات العمل للمرأة وضوحًا، ووجدنا مَن يصرّح ألا عمل مناسب للمرأة سوى عمل داخل المنزل لخدمة الزوج وتربية الأبناء، وكنت حينها قد أنجزت قبل سنوات قليلة دراستي التي حصلت بموجبها على درجة الماجستير في الاقتصاد الإسلامي، وكان موضوعها: “مقومات عمل المرأة وصلتها بتنمية الموارد البشرية”، ثم اجتزأت منه بعضه لأنشره في جريدة “الندوة” مقالاً أشارك به في ذاك النقاش المحتدم حينئذٍ حول قضايا المرأة وحقوقها، خاصة حقها الشرعي في العمل، وها نحن قد مضى منذ ذاك الزمان أكثر من ربع قرن من الزمان، ولا نزال نتناقش: هل عمل المرأة خارج المنزل حق لها، أم هو تمرد على الدّين وأعراف المجتمع؟ وهل يمكنها العمل في موضع واحد مع الرجال دون أن تتعرّض للفتنة بشكل لازم، كما اعتقد البعض منا؟.. أم يجب أن تُعزل عن الرجال في أي نشاط تقوم به؛ صونًا لها كما يعتقد هذا البعض؟ والحقيقة أن الاسلام ساوى بين الرجل والمرأة في جل أحكامه، فالتكاليف الشرعية من أركان الإسلام من صلاة وصوم وزكاة وحج، وحتى الجهاد في سبيل الله الذي كان للمرأة مشاركة فاعلة فيه مع بدء ظهور الإسلام، ولعل ممّا يتبادر إلى الأذهان في هذا الباب قول الله تعالى: (وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ الله مِن فَضْلِهِ إِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)، فقد جاءت المساواة في الثواب والعقاب على العمل للرجال والنساء واضحة جلية، سواء أكان العمل تعبديًّا محضًا، أم تعبديًّا دنيويًّا، والعمل حق للمرأة كما هو حق للرجل، واكتساب الرزق لها فريضة لا تُعذر بتركها كما هي للرجل، تدرأ بها عن نفسها ذل الحاجة، وما قد يؤدّي إلى زوال كرامتها، أو يدفعها إلى أن تذل نفسها، لأنها لا تجد ما تنفق به على نفسها وأولادها، فالمرأة شقيقة الرجل، ففي الحديث الصحيح (إن النساء شقائق الرجال) وعبّر عامتنا عن ذات المعنى فنعتوها بأخت الرجال، والمرأة على مر الزمان تمارس النشاط الاقتصادي، كما يمارسه الرجل، ولها في الإسلام أن تمتلك، وأن تبيع وتشتري، وأن تهب، وأن تشارك غيرها من الرجال والنساء، فالتكاليف المالية منوطة بالمرأة كما هي منوطة بالرجل، وليس في نصوص الدّين ما يمنع المرأة من عمل معيّن مهما كان نوعه، ما لم يكن محرمًا بنص شرعي، وحتى ما يُقال إنه يتنافى مع طبيعتها كالقتال حينما تكون الضرورة إليه في الجهاد إذا قامت به فلها عظيم الثواب، ولا شك، وعمل المرأة كما هو عمل الرجل يجب أن يكون في دائرة الحلال المباح، فلا أحد يدعو المرأة إلى عمل يخدش حياءها من الأعمال المحرمة، ودعوى حصر عمل المرأة في أعمال مخصوصة كالطب والتعليم، إنما هو رأي لا حكم دين، والمرأة في بلادنا كانت محرومة من التعليم زمنًا ليس باليسير، وكان الاعتراض على تعليمها يلبس الرافضون له على الناس أنه صون للمرأة، وحفاظ على دينها، ولو لم نواجه تلك الأفكار، ولو لم تفرض الدولة تعليم المرأة لبقيت النساء في بلادنا أميّات جاهلات، ولكن حماهن بجهود المخلصين من أبناء هذا الوطن، الذين عملوا للنهوض بالمرأة حتى بلغت ما هي عليه اليوم من العلم والمكانة، واليوم الذين يعلنون الرفض لعمل المرأة في أي مجال يعلن أنه متاح لها، يسيرون على خطى أولئك الذين عارضوا تعليمها وناصبوه العداء، كهذه الحملة التي شنّها البعض على عمل النساء في البقالات الكبيرة (السوبر ماركت) موظفات يقبضن ثمن المشتريات من المتسوّقين بهذه البقالات، أو ما تعورف عليه اليوم ب“الكاشير”، واعتبروا بزعمهم أن هذا العمل امتهان لكرامة المرأة ودينها، إانما هو من قبيل هذه الدعوات التي تتكاثر اليوم لا دليل يؤيدها ولا عقل، فالمرأة تتسوّق في هذه البقالات مع الرجال، وتقف معهم في طابور واحد أمام “الكاشير” الرجل؛ لتدفع ثمن مشترياتها، فإذا تبادلت معه المواقع فما الفارق؟ وإذا كانت ستعمل في مكانه ملتزمة بحجابها الشرعي فما الضرر؟ إلاّ أن تضييق فرص العمل للنساء المؤهلات له عظيم الضرر، فكثيرات منهن اليوم يلزمهن الإنفاق على أنفسهن، ومنهن مَن تنفق على عائلة بأكملها، فإلى متى تتردد هذه الدعوات إلى عزل النساء واستبعادهن من سائر أنشطة العمالة الوطنية المؤهلة للعمل بحجج واهية؟ فإن عدم توفر العمل للمرأة الحرّة الذي به توفر عرضها وتحمي كرامتها، قد يقودها إلى كثير من المشكلات التي لا يرضاها لإحدى قريباته، فهلّا كف هؤلاء عن هذا، وأعانوا أخواتهن على أن يجدن عملاً شريفًا يكفلن به الرزق لأنفسهن ومَن يُعِلْنَ. هذا ما أرجوه، والله ولي التوفيق. ص.ب 35485 جدة 21488 فاكس: 6407043 [email protected]