انبعثت البارحة لأقرأ ترجمة أبي نواس الحسن بن هانئ من كتاب الخطيب البغدادي الشهير تاريخ بغداد. والخطيب من أعلام المسلمين في فن الجرح والتعديل، ومن المتقدمين في رواية الحديث وضبطه وترتيب علومه، وأنا أعرف القوة الرائعة التي يتمتع بها نقاد الرجال في هذا العلم من الدقة والحزم والبعد عن حظوظ النفس، التي تجعلهم يسقطون بأحكامهم في فن الرواية كثيرا من الزهاد والصلحاء، لأنهم حين يدرسون الرجال فإنما يكشفون طرق الحديث، التي تصل بيننا وبين تلقي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الناس باعتبار أهليتهم، لأن يؤخذ عنهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان رأيي أن هؤلاء العلماء من أمثال الخطيب قد تربى عندهم جراء علمهم، الذي يعتنون به ملكة قد لا يستطيعون الانفكاك منها حتى ولو تكلموا عن الأدباء والأطباء وغيرهم ممن لا علاقة لهم برواية الحديث، وكنت أنتظر أن أجد من الخطيب في نقد أبي نواس أبلغ العبارات التي يمكن أن يقولها محدث متشدد في رجل مثل أبي نواس يصفه الأدباء بأقذع الأوصاف فيا ترى كيف سيصفه المحدثون؟ ماذا قال الأدباء عنه؟ قالوا إنه من أفسق عباد الناس في عصره وأعظمهم جرأة على محارم الله وعلى المجاهرة بمعصية الله وكان فاسد الدين مفسدا للناس. هكذا قال عنه أصحاب صناعته فمن باب أولى أن يظن بالخطيب أن يقول فوق ذلك كأن يصفه بالزندقة، وينكر على من قرأ أدبه أو حفظه ولكن الواقع كان غير هذا. كان الخطيب يعلم جيدا أنه يترجم لأديب ولا يترجم لمحدث، وعليه فإذا كان الفقهاء أجازوا نقد أئمة الحديث لرواته حفظا للسنة من أن يتسرب إليها الخطأ والنسيان فضلا عن الكذب والبهتان فهم يتحرجون من الغيبة أيا كانت وأيا كان صاحبها ويقدمون الذكر الجميل والعذر بالجهل والصبوة على إصدار الأحكام، ما دام إصدارها لا يفيد الإسلام بشيء كما تفيده أحكامهم على رواة الحديث، التي يرونها واجبا لحماية مصادر التشريع وحفظا لقوام الدين. إن مثل هذا العرض في تاريخ بغداد ينبغي أن نقف منه موقف المستفيد المعتبر. فمن الفوائد التي أراها هنا زيادة ثقتنا بعلماء الجرح والتعديل، الذين علت ملكتهم النقدية فوق كل انتصار لشخص أو اتجاه، تلك الملكة التي من أجلها ينبغي أن نجدد النظر فيما كتبوه من التراجم لعل تلك الملكة العجيبة تتربى فينا فنكون في نقدنا للآخرين أكثر عدلا وأدق في انتقائنا لعبارات الانتقاد، حيث لا نتجاوز الرأي المنتقد إلى صاحبه، إلا إذا تحققت لدينا مصلحة عامة معتبرة شرعا تدعونا إلى تجاوز الرأي إلى من قال به. ونقيض العدل في نقد الآخرين ظلمهم، ومن أبشع الظلم التسلح بالكذب لإسقاط الآخرين والنيل منهم، ومما يؤسف له أن الكذبة في وقتنا هذا تروج بين الناس ثم لا ينفع بعد ذلك المكذوب عليه أن ينكر ما نسب إليه، لا سيما إذا كان فئة عريضة وليس شخصا واحدا مسمى بعينه. أذكر هنا ما كتبه بعض أقلام الكتاب حول ما يتقاضاه الدعاة من أجور زعموا أنها ضخمة في المخيمات الدعوية، التي أقيمت في الموسم السياحي بمنطقة عسير، واستسلم بعض كتاب الرأي لمثل تلك الإفكات حتى تداولها الناس في مجالسهم على أنها حقائق لا يتطرق إليها الشك، ثم ما لبثنا أن قرأنا نفيا قاطعا من قبل المسؤولين عن تنظيم هذه المخيمات لما أصبح حديث المجالس من أساطير الكتاب، وانتظرت مع الكثيرين أن يشغل هذا النفي شيئا من أعمدة هؤلاء الكتبة التي اشتغلت بالأمس في حديث الإفك، لكنني للأسف لم أجد شيئا من ذلك، وظلت الكذبة على حالها من الرواج أما النفي فكأنه لم يكن. لم أذكر هذا المثال في هذا السياق إلا لأنه أقرب الأمثلة من حيث العهد لتاريخ كتابة هذه السطور، وليس لأنه أسوأ ما ينال الدعاة من أذى الأفاكين. ثم أعود إلى أبي نواس الذي لم يتفرد وحده بعدل أئمة الحديث، كما لم يتفرد الخطيب البغدادي بينهم بهذا العدل، لكن الخطيب وأبا نواس كانا أليق الأمثلة لما أردت التوصل إليه لشدة أحدهما واستحقاق الآخر.