الأمر الملكي الكريم بتنظيم شؤون الفتوى في البلاد، من شأنه إذا أُحسن تطبيقه، وأُخذت له عدته، وأُحكمت ضوابطه، واستكملنا كل آلياته وأدواته، أن يفتح أبوابًا كثيرة للخير، ويغلق مثلها من الفتنة والشر، ويحول -بإذن الله تعالى- دون الكثير من الاجتراء على الدِّين، والتطفّل الجاهل على الفتيا، والإرجاف بالباطل. * * * وإذا كان الوحي قد تنزل منهج حياة شاملاً للإنسانية، ينتظم كل مناشطها الدنيوية، وشؤونها وأحوالها البشرية في كل زمان ومكان حتى يوم الدِّين، فقد اقتضت حكمة المولى عز وجل، أن تكون الشريعة الغرّاء في معظمها قواعد عامة، وتوجيهات دقيقة، وأن يُترك الاجتهاد لأهل العلم كل في زمانه، بحيث ينزل التطبيق العملي لمبادئ الدِّين وأحكام الشرع على الواقع المعاش للناس، الذي يتشكّل وفق تبدّل الأحوال، وتغيّر الأزمان، وتطور الحياة، وذلك تكريمًا للعقل، ووجوب إعماله، وثقة بالجوهر الإنساني وعمق إيمانه، وابتلاءً لحرص الناس على اصطحاب الوحي، والالتزام بطاعة الله، واتّباع أوامره سبحانه. ومن هنا وضع العلماء قواعد للاجتهاد يجب الالتزام بها، وشروطًا للمجتهد لابد من توفرها، ممّا أفاضت فيه كتب الفقه، ومؤلفات الأصول، حتى لا يكون الدِّين حمىً مستباحًا يجترئ عليه الجهلة وأهل الأهواء. * * * إن من المستحيل في كل حين، خاصة في ظل هذا التبدّل الهائل الذي شمل أحوال الدنيا، وغيّر وجه الحياة، والتطوّر الأضخم الذي ينتظرها في المستقبل، أن يكون كل حاكم، أو وزير، أو قاضٍ، أو اقتصادي في بلدان المسلمين، مجتهدًا استكمل شروط الاجتهاد وأدواته، ومن الخطورة بمكان والحال كذلك، أن نترك لهؤلاء الأفراد كل في مجاله تطبيق شرع الله حسب فهمه، وتحديد مراده سبحانه من نصوص الشرع، والحكم بذلك طبقًا لاجتهاده الفردي في الدماء والأموال ومصالح العباد، فقد تعقّدت شؤون الحياة، وتطوّرت أحوال الدنيا، وتبدّلت ظروف المعيشة وعلاقات الأفراد والشعوب، بحيث لا يستطيع حتى أعظم عالم أن ينفرد وحده بالاجتهاد في كل شيء، بل لابد أن يجتمع على هذا الأمر الجليل الذي تتوقف عليه السعادة في الدنيا، والنجاة في الآخرة، كل ما توافر للأمة من مجامع الفقه، وهيئات الفتوى، تعاونهم في ذلك نخبة من أهل الاختصاص في كل علم، ممّا يوفر للأمة في مختلف مجالات حياتها اجتهادًا جماعيًّا تلتزم به وتتلقاه بالرضا وتذعن له بالقبول. (الحديث موصول).