نص القرآن الكريم وكذلك الأحاديث النبوية الشريفة على أن الحكمة العليا من الصيام هي ترقي المسلم في سلم التقوى والعمل الصالح والإجتهاد في تزكية النفس وتخليصها من عيوبها وأمراضها ، يقول تعالى في محكم التنزيل عن حكمة الصيام ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ، وفي صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه)، فرمضان هوموسم التوفيق الإلهي للمسلم للترقي في مقامات الصلاح والتقوى وإعطائه الفرصة السانحة لكسر روتين الحياة والتوجه نحوإحداث نقلة نوعية في درجاته عند ربه من خلال دورة إيمانية مكثفة تتدرج به من بداية شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار حتى يدرك ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ليتخرج من هذه الدورة الإيمانية العملية وهو إلى الله أقرب وبرسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم أكثر تأسياً واقتداءً وللقرآن الكريم أكثر معايشة وتفاعلاً وبسلوك أخلاقي أجمل وأرقى. ولا بد للمسلم من قبيل الشكر والامتنان أن يقابل كل هذا الخير والعون الرباني بقبول حسن وأن يري الله من نفسه ذلك ، والناس يتفاوتون في ذلك فثمة الفائزون في رمضان الذين شمروا عن سواعدهم ليجتهدوا قدر الإمكان في صيام الشهر كما كان يصومه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة. رواه البخاري ، وثمة مقصرون مفرطون منكبون على لهوالحديث قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ( رغم أنف امرئ أدرك رمضان ولم يغفر له ). وهنا قد ينبرى بعض «المتعصرنين» للاحتجاج على الذين يحنون إلى ماضي الأمجاد الرمضانية وإلى صورة رمضان حتى في الماضي القريب من عقود مضت ويسمونهم بالطللية على رأي عنترة العبسي فيما تداركه على شعراء زمانه : هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم ، والحقيقة غير ذلك فصيام رمضان في الماضي حتى القريب منه ناهيك عن أمجاد الأمة العسكرية التي تحققت في الشهر وعلى رأسها يوم بدر كان بالفعل أكثر روحانية وأقرب لتحقيق الحكمة الربانية من الصيام ، فعصر العولمة أصبح يفرض تحديات جديدة وقاسية في دنيا الناس لا يكاد ينجومن متلازماتها أحد إلا من رحم ربي وقليل ما هم ، مما جعل الإحساس برمضان أقل نكهة إن جاز التعبير وأكثر تشتتاً مع أن الشهر المبارك هوهوالشهر فيه كل الخيرات والرحمات والبركات والنفحات الربانية التي حباها الله للأجيال السابقة من بينها تصفيد مردة الشياطين والجن ليتفرغ المؤمن للعبادة ، لكنّ صوارف وملهيات ومشتتات عصر العولمة أكثر من أن تحصى فوتيرة الحياة ذاتها أصبحت أكثر تسارعاً من أي وقت مضى تتقاذف المسلم أمواجها فيصبح ليمسي ويمسي ليصبح لا يكاد يستطيع أن يستمتع بمتع الحياة وطيباتها فيما بينهما ، والملهيات كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر شبكة الإنترنت التي يمكن أن يتسمر المسلم أمام شاشتها بالساعات الطوال دون الإحساس بقيمة الوقت الثمين ربما في تصفح ما هومفيد وجيد لكنه بالمقابل سيقتطع من أوقات كانت يمكن أن تخصص للدعاء والتوبة والإستغفار وقراءة القرآن هذا ناهيك عن الظهور التلقائي للصور والدعايات المحرمة بين الفينة والفينة حتى على الصفحات البريئة ، وأما جهاز الهاتف الجوال فعلى رغم فوائده الجمة فكثيراً ما يجبر المصلين مثلاً وهم خاشعون لله رب العالمين في المساجد على سماع نغمات الموسيقى في بيوت الله مختلطة بترتيل القرآن العظيم ، أوقد تشغل البعض من المصلين بالتلهي بالرد على المكالمات أوالرسائل القصيرة بين التسليمات. ومما لا ريب فيه أن من أهم وأكبر بل لعله أشد منغصات رمضان في زمن العولمة ذلك الحشد الهائل من المسلسلات التلفزيونية ما بين كوميدية وتاريخية ودرامية ومسابقات... الخ التي تصرف المؤسسات الفنية الشهور الطوال في إعدادها للإنطلاق في شهر الرحمة والغفران شهر القرآن شهر ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر بشكل موسمي متعمد ، ولست أدري ما الرابط بين شهر رمضان المبارك والأعمال «الفنية» التي يغلب عليها الإسفاف والاستخفاف بعقل المتلقي والإساءة للصورة الحقيقية للمجتمعات العربية المسلمة ناهيك عن أنها في غالبيتها الساحقة لا تكاد تخلومن المناظر المحرمة شرعاً التي تخدش الحياء ومن الطروحات المخالفة للوحي المنزل ، تبثها ما يزيد عن 700 فضائية عربية. إن خير ما يمكن أن يتعامل به المسلم المحب لربه ولرسوله صلى الله عليه وسلم مع هذه المسلسلات هو الإعراض عنها ومقاطعتها قلبياً وعملياً وتهميشها في حياته الرمضانية، والإقبال ضمن برنامج تعبدي مخطط له على موائد القرآن والحرص على الصلوات الخمس جماعة في المساجد وصلاة التراويح والقيم والإكثار من الذكر والإستغفار ، ولوقاطع الناس المسلسلات «الرمضانية» لما وجدت رواجاً. فنتعبد الله بالإقبال عليه والإعراض عن لهوالحديث ، وكل عام وأنتم بمليار خير. [email protected]