* الثقافات والبيئات البشرية على تنوعها، ومنذ بدء الخليقة وهي تتمازج وتتعارف وتؤثر وتتأثر في بعضها البعض، رغم أن كل واحدة منها لها خصائصها وهويتها الذاتية المختلفة كلية عن الآخرين. ولم تكن هكذا حالة مانعة أو عائقة لتميّز حضارة عن أخرى أو سالبة لها. بل إن التاريخ الإنساني يؤكد أن الحضارات البشرية المؤثرة والتي سجلت ذاتها بماء من ذهب وخلود إنما كانت نتاج تراكمات تجارب لثقافات وعوامل عدة. والتمازج أو التثاقف الحضاري بين الأمم قد يأتي في شكل صور في منتهى البساطة والبدائية، لا كما قد يتصوّر البعض في أن يكون على مستوى رفيع من التفكير والتجربة. ويزداد عمق التمازج إذا ما أتيحت له وسائل تواصل أسرع وأوضح كما هو حادث في أيامنا هذه نتيجة لتعدد وسائل التواصل من مواصلات، برية وبحرية وجوية، واتصالات هاتفية وفضائية وتلفزيونية وإذاعية وصحفية، وأوعية معرفة كالكتب ومراكز المعلومات، أو تكنولوجيا مثل الإنترنت بكل تنوعاته الإيميل والفيس بوك والتويتر. • في نهائيات كأس العالم الأخيرة التي أقيمت في جنوب إفريقيا اندمج العالم كله بكل الوانه الثقافية في الاهتمام بما يدور هناك من تفصيلات ودقائق ومتابعة لكل كبيرة وصغيرة. فأصبحت الفوفوزيلا مدار حديث الناس في كل مكان في ذات الوقت الذي شكلت في الذهنية الإنسانية المتابعة والمهتمة بها رمزاً للفرح والبهجة. وفي يقيني ان الفوفوزيلا ستسود ملاعب الدنيا كلها من أقصاها إلى أقصاها مع بدايات المواسم الرياضية المقبلة في كل القارات. • وهنا كما تقول العرب «مربط الفرس» فأداة بسيطة كهذه، لم تكن في حسبان أي مفكر أو عالم أو مُنظر ايديولوجي، أن تتحوّل إلى إحدى الوسائل المعبرة أو المساهمة في التمازج الإنساني بين الثقافات والتجارب التاريخية البشرية وتدفع إلى القول بأن الفوفوزيلا ستشكل واحدة من التحوّلات المفصلية في تقارب الثقافات الشعبية الإنسانية، حيث ستتحوّل إلى عامل دافع ومحفز للإبداع والحرفنة والمهارة بين هذه الثقافة وتلك، فربما سنرى فوفوزيلا بنكهة يابانية بحتة، وأخرى فرنسية خالصة، وثالثة أسترالية، ورابعة هندية، وخامسة روسية، وسادسة سعودية، ومصرية، ومغربية، وهكذا. • ففي داخل الملاعب ستغدو الفوفوزيلا أداة فرح وتشجيع بطريقة ابداعية مختلفة كلية عن زميلتها في ملاعب العالم الأخرى، سواء في الوانها أو استخداماتها أو رمزيتها أو حتى تصنيعها. وهي في هذا، وفي معرفتي التاريخية كأستاذ جامعي في هذا المجال، لا تختلف أبداً عن كثير من أدوات التأثير والتواصل التي صنعتها اليد البشرية أو أوجدتها العقلية المجتمعية في هذه البقعة من الارض أو تلك عبر العصور السابقة. • ولوضوح أكثر اقول يفهم كثيرون العولمة في كونها فقط سيطرة رأسمالية غربية -أمريكية على وجه التحديد- على العالم، بينما الواقع المعاش لكل المجتمعات البشرية يبين بوضوح تام انها تمازج ثقافي متنوع انصهر في بوتقة واحدة حتى وإن طغت على بعض جوانبه الدمغة الأمريكية. فليس بالضرورة النظر فقط إلى الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية الامريكية ككل للعولمة، لأن الملابس والمأكولات وانماط الحياة من أهم مكونات العولمة. وهنا تتضح أكثر معالم التمازج والتثاقف الحقيقي. فبقدر ما يرتدي الشاب السعودي في جدة أو الرياض أو الدمام القميص الأمريكي، بقدر ما يوجد في واشنطن ونيويورك من يحاكي بعض انماط اللبس والمأكولات العربية والسعودية. • ولهذا أقول وبكل وضوح الشمس إن ما حدث في جنوب إفريقيا من تفاعلات وأحداث رياضية وإنسانية بقدر ما انه سيكون عاملاً من عوامل التمازج المستقبلي بين الثقافات، بقدر ما يدعونا في هذه الارض المباركة إلى التفكير في مدى الانفتاح الثقافي الإنساني القائم الآن والذي يجب استثماره إلى أقصى مدى حتى ينعكس في شكل تغييرات مجتمعية ايجابية.